مُجدداً ولي العهد يهزم العهد.. والحريري لن يعتذر!

عهد ميشال عون هو عهد تاريخي بكل معنى الكلمة. لا قبله ولا بعده، بالإذن من الزميل الراحل إسكندر رياشي. لم يأت عهد لبناني منذ الإستقلال حتى يومنا هذا قرر أن يشطب نفسه منذ اليوم الأول لولايته ولن يأتي عهد أكثر “مازوشية” من بعده. عهد يتحمل الألم والسكاكين وينادي بمثلها أيضاً في آخر سنتين له، لكأنه يريد القول: الأولوية لإنقاذ ولي العهد وليس العهد!

ليس في الأمر تحامل. هذا مجرد توصيف. قد يُزعج البعض، لكن المجاهرة بالحقيقة، وبرغم نسبيتها، تكون محرجة أو جارحة أحياناً. كنا أمام مشهد حكومي، لكن كما جرت العادة منذ أربع سنوات حتى يومنا هذا، تقدم الرئاسي على ما عداه، وأصبح ميشال عون هو الحلقة الأضعف، لكن بقرار واع منه!

عندما أجرى رئيس الحكومة المكلف سعد الحريري، جولة مشاوراته الأولى مع رئيس الجمهورية، كان واضحاً أمامه: أنت شريكي في تأليف الحكومة. ليس في الأسماء المسيحية وحسب، بل وحتى في الأسماء الشيعية والسنية والدرزية. لا مانع عندي من تلقي أية أسماء يقترحها فخامة الرئيس. يجب أن نكون على سكة واحدة. نجاح عهد ميشال عون هو مصلحة لسعد الحريري ويجب أن يكون نجاح الحكومة هو نجاح للعهد. لقد أهدرنا الكثير من الوقت وصارت الإستحقاقات داهمة.

كلام جميل ومنمق. تعبير عن محاولة إبرام إتفاق ينتهي مفعوله مع إنتهاء آخر سنتين للعهد. لكن عون كان يريد من رئيس الحكومة المكلف أمراً ثانياً. مجرد تعهد بالتواصل مع رئيس التيار الوطني الحر جبران باسيل. قال الحريري إنه سيلتقيه كما باقي الكتل في مجلس النواب. بكل الأحوال، بعد إنجاز تأليف الحكومة، سأبقى على تواصل معه ومع غيره من القوى السياسية. عملياً، كانت رسالة الحريري تشي بأن المطلوب تفهم حقيقة أن إلزامه بالتفاهم المسبق مع باسيل، كما حصل في السابق، لن يتكرر وبالتالي لن يخضع للإبتزاز. هذه المرة، ثمة شراكة في التأليف، مع رئيس الجمهورية حصراً، بموجب الصلاحيات الدستورية ولا سيما التوقيع.

على مدى أربع جولات من الحوار مع رئيس الجمهورية، لم يغير سعد الحريري خارطة الطريق التي وضعها. لقاء يتيم مع كل من الرئيس نبيه بري وحزب الله. تبلغ من “الثنائي” أنه لن يكون حجر عثرة بوجه التأليف: إتفق مع رئيس الجمهورية ولن تجدنا إلا في موقع التسهيل.

بالنسبة إلى وليد جنبلاط وسليمان فرنجية، مطالبهما واضحة ولا تقبل أي إلتباس، لكن الرئيس المكلف لم يلتزم مع أي منهما بحقيبة خدماتية محددة من الحقائب الست، مخافة أن تؤول أمور التأليف إلى حيث يضطر إلى تقديم تنازلات لآخرين، فلا يفي بتعهد محدد، كما كان قد وعدهما، وهذا حصل في مرات سابقة.. ولا بد من تفاديه هذه المرة.

كيف تطور الحوار مع رئيس الجمهورية وإلى أين وصل؟

في البداية، عرض الحريري حكومة من 14 وزيراً، لكن عون نادى بحكومة من 24 أو 20 على الأقل. سارع الحريري إلى رفع العدد إلى 18 وزيراً، وحصل، وفق رواية المقربين منه، على إلتزام صريح وواضح من رئيس الجمهورية بهذه الصيغة (العدد). بمجرد التفاهم على العدد، أي 18، صار التوزيع الطائفي ـ السياسي أكثر وضوحا:

9 وزراء للمسلمين موزعة كالآتي: 4 وزراء سنة (3 للحريري ووزير يسميه نجيب ميقاتي)، 4 وزراء شيعة (2 لحركة أمل و2 لحزب الله)، وزير درزي واحد يسميه وليد جنبلاط.

9 وزراء للمسيحيين موزعة كالآتي: 4 وزراء للموارنة (واحد لكل من رئيس الجمهورية وسليمان فرنجية والتيار الوطني الحر والحريري)، 3 وزراء للأرثوذكس (واحد لكل من رئيس الجمهورية والتيار الحر وفرنجية)، وزير كاثوليكي واحد (رئيس الجمهورية)، وزير أرمني واحد (الطاشناق).

كيف تم توزيع الحقائب على أساس تكريس مبدأ المداورة الشاملة ما عدا حقيبة وزارة المالية؟

أولاً، الحقائب السيادية الأربع:

الدفاع: ماروني يسميه رئيس الجمهورية وهو على الأرجح العميد المتقاعد فادي داود قائد عملية “فجر الجرود”؛

الداخلية: أرثوذكسي يسميه رئيس الجمهورية بالتوافق مع رئيس الحكومة حيث تردد إسم نقولا الهبر؛

الخارجية: سني يسميه ميقاتي بالتوافق مع الحريري، وكان الأوفر حظاً لهذا المقعد السفير مصطفى أديب، في إنتظار جوابه النهائي، وهو عبارة عن عملية مفاضلة بين راتبه كوزير وراتبه كسفير (33 ألف يورو شهرياً)، فإذا قرر أديب الإعتذار، تكون الأولوية للأمين العام لوزارة الخارجية هاني شميطلي.

المالية: شيعي يسميه رئيس مجلس النواب بموافقة الحريري، ولن يعلن عنه إلا في لحظة إصدار المراسيم.

ثانياً، الحقائب الخدماتية الست:

وفق العرف، فإن هذه الحقائب الست هي: الأشغال العامة، التربية، الصحة، الإتصالات، الطاقة والعدل. بموجب المداورة، وإعتبارات رئاسية، حسم أمر ثلاث وزارات من حصة المسيحيين هي الطاقة (كاثوليكي/ة يسميه/ها باسيل)، الإتصالات (ماروني يسميه رئيس الجمهورية)، العدل (ارثوذكسي يسميه رئيس الجمهورية)، وفي المقابل، تتوزع الحقائب على المسلمين كالآتي: الصحة للسنة (الحريري)، التربية للدروز (جنبلاطي)، الأشغال العامة للشيعة (حزب الله)، علما أن الحريري أبقى الباب مفتوحاً في ما خص الحقائب الثلاث الأخيرة.

ثالثاً، الحقائب العادية:

عملياً، تبقى هناك 12 حقيبة هي الآتية: العمل، الشؤون الإجتماعية، البيئة، الإقتصاد، الصناعة، الزراعة، السياحة، الإعلام، التنمية الإدارية، الثقافة، الشباب والرياضة، المهجرين.

تتوزع هذه الحقائب مناصفة بين المسلمين والمسيحيين، على أن تكون الأفضلية في الإختيار للطائفة الأرمنية، وعدم الخروج عن مبدأ المداورة (مثلا لا تكون وزارات كالصناعة أو الزراعة أو الثقافة من حصة الشيعة ولا العمل أو التنمية الإدارية أو البيئة من حصة الموارنة إلخ..)

يقتضي توزيع الحقائب الـ 12 بصورة عادلة أن يحمل 8 وزراء في الحكومة حقيبتين على الأقل، وذلك على قاعدة أن تقدم الحكومة سلسلة مشاريع قوانين فور نيلها الثقة تقضي بدمج وزارات أو إلغاء أخرى مثل المهجرين والإعلام والتنمية الإدارية إلخ..

رابعاً، تعطيل الثلث المعطل:

لا أحد من مكونات الحكومة يملك الثلث المعطل وحده، ولكن الكل يدرك أن أي تحالف بين مكونين يمكن أن يوفر ليس الثلث المعطل وحسب بل نصف وزراء الحكومة. زدْ على ذلك أن رئيس الحكومة وحده يشكل الثلث المعطل، فإذا قرر أن يستقيل، تعتبر الحكومة مستقيلة بمعزل عن عدد الوزراء المحسوبين عليه.

إلى هنا إنتهى العرض الذي كان مرتبطاً بقوة دفع سياسية ـ رئاسية تريد للحكومة أن تبصر النور قبل يوم الثلاثاء المقبل.

فجأة ومن خارج السياق الذي كانت تسير فيه الأمور، قرر رئيس الجمهورية أن يستقبل رئيس التيار الوطني الحر وأن يذيع القصر الجمهوري الخبر. هو اللقاء ـ الإنقلاب. فكل ما وافق عليه رئيس الجمهورية رماه رئيس التيار في سلة المهملات. كيف؟

أولاً، العدد:

رفض باسيل حكومة الـ18 وزيراً، وبالتالي تمسك بحكومة من 20 إلى 24 وزيراً (عبّر عن ذلك بيان الهيئة السياسية في التيار بتأكيده على “ضرورة وجود وزير متخصص على رأس كل وزارة وبالتالي فإن إسناد اكثر من حقيبة وزارية لوزير واحد هو ضرب لمبدأ الإختصاص لا سيما إذا جمع الوزير بصورة إعتباطية بين حقيبتين لا علاقة لإختصاص الواحدة بالاخرى”).

ثانياً، مبدأ المداورة:

رفض باسيل إستثناء وزارة المالية من المداورة، وإعتبر أن مجرد الإستثناء مرة واحدة لا يُلزم أحداً بقبول المبدأ نفسه، وبالتالي فإن المداورة المطروحة في باقي الحقائب مرفوضة كلياً ولا سيما في وزارة الطاقة، أي أنه ذهب إلى إعادة المطالبة بتثبيت التوزيع الذي إعتمدته حكومة حسان دياب، وهذا الأمر يحمل في طياته رغبة باسيلية في عدم إفلات وزارة الطاقة خصوصا إذا نجح المشروع الفرنسي بإيجاد حل لمشكلة الكهرباء في غضون أقل من سنة، الأمر الذي سيفتح ملف تعامل التيار البرتقالي مع هذه الوزارة منذ عشر سنوات على الأقل حتى يومنا هذا.

ثالثاً، العقدة الدرزية:

أعاد باسيل وضع العقدة الدرزية على الطاولة في محاولة لحشر ثنائي حزب الله وحركة أمل بأنه يقاتل دفاعا عن طلال ارسلان، بينما قرر “الثنائي” التضحية به. الأكيد أن باسيل يريد إستخدام الذريعة الدرزية لتحسين شروطه سواء برفع العدد أو الحصول على الثلث المعطل.. والأهم من ذلك أخذ ما يريد من الوزارات الخدماتية والأسماء المسيحية.

رابعاً، التدقيق الجنائي:

وضع التيار الوطني الحر التدقيق الجنائي شرطاً إلزامياً لتسهيل ولادة الحكومة. ثمة مطالعة تقدمت بها هيئة التشريع والإستشارات في وزارة العدل وتضمنت التأكيد على صفة الإلزام لأي قرار يتخذه مجلس الوزراء، سواء في موضوع التدقيق الجنائي أو غيره، وبالتالي، “على حاكم مصرف لبنان أن يتجاوب مع مطالب شركة ألفاريز” وذلك تحت طائلة إقالته من منصبه في حال عدم الإلتزام”، كما يقول قيادي في “التيار”، مستشهداً ببيان الهيئة السياسية، حيث تعهد “التيار” بإستخدام جميع وسائل الضغط لكشف الحقائق والتصدي للمعرقلين (للتدقيق) سياسيًا وتشريعيًا وشعبيًا”.

خامساً، التحالف الرباعي:

يصر باسيل في حلقته الضيقة على إشاعة مناخ مفاده أن هناك من يريد إبرام تحالف رباعي جديد، بدليل أن حزب الله وحركة أمل ووليد جنبلاط وسليمان فرنجية تفاهموا مسبقاً مع الحريري “على كل شاردة وواردة حكومية”، وقد حاول جس نبض أقرب حلفائه، أي حزب الله، ففهم أن الحزب لم يخض حتى الآن مع الحريري لا في الحقائب ولا في الأسماء، وأنه ينتظر إتصالاً من رئيس الحكومة المكلف بعد أن ينجز تفاهمه مع رئيس الجمهورية.

سادساً، الثلث المعطل:

بموجب صيغة العشرين وزيراً يطمح باسيل إلى أن تكون حصته ورئيس الجمهورية سبعة وزراء على الأقل هم وزراء رئيس الجمهورية والتيار والطاشناق (7)، أي الثلث المعطل، وإذا تمكن من حصد المقعد الدرزي الثاني، يصبح متحكما وحده بثمانية وزراء، اي أنه يريد الثلث المعطل وحده بمعزل عن باقي حلفائه، معتبرا ذلك ضمانة في مواجهة إحتمالات أن تعمّر هذه الحكومة ولا تكون حكومة مهمة لستة أشهر كما يردد رئيسها.

تقود هذه العناوين الستة إلى القول إننا عدنا إلى المربع الأول للتأليف، وبالتالي، ما كان يأمله الحريري بأن يضع على مكتب رئيس الجمهورية ميشال عون تشكيلة مكتملة صباح يوم الثلاثاء في 3 تشرين الثاني/نوفمبر لم يعد قابلاً للتنفيذ. بطبيعة الحال، ليس في قاموس الحريري مصطلحات كالإنسحاب أو الإعتذار أو الإستسلام، ما يعني أنه سيكون مكرهاً على منح وقت إضافي للتأليف أو تغيير قواعد التفاوض مع رئيس الجمهورية (حضور أحد المستشارين في بعبدا كشاهد على ما يتم إنجازه على سبيل المثال لا الحصر).

حتى الآن، يتمسك الحريري بحكومة الـ 18 وزيراً. حتى في حالة زيادة الوزراء إلى عشرين لن يعطي الرئيس المكلف المقعد الدرزي الثاني إلا لجنبلاط. أما المداورة، فإن أقصى ما يمكن أن يقبل به هو الطلب من رئيس الجمهورية تسمية أسماء وزراء شيعة لحقيبة المالية، وهو قدم إليه عددا من الأسماء حتى الآن، وكان لافتاً للإنتباه أن حزب الله وبري تركا الباب مفتوحاً في ما يخص تسمية الوزراء الشيعة الآخرين، أي أن يبادر الحريري إلى التسمية مقابل حق “الفيتو” لـ”الثنائي” بدل العكس، وهي إشارة إلى نية الطرفين تسهيل ولادة الحكومة بأسرع وقت ممكن، كما قال الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله في خطابه الأخير، قبل يومين.

يتصرف الحريري على قاعدة أن باسيل يريد أن يلزمه بالتفاوض المباشر معه قبل التأليف، أي أنه الحاكم الفعلي للجمهورية. هذه النقطة التي يرفض الحريري الإنزلاق إليها ولو إستمر مكلفا حتى موعد الإنتخابات النيابية (ربيع 2022).

عملياً، صار الجميع أمام لعبة عض أصابع بلا سقف زمني. لا أحد في الداخل يريد أن يضغط على جبران باسيل، من رئيس الجمهورية إلى حليفه الأول حزب الله. هل يراهن سعد الحريري على تدخل خارجي ما؟

هنا تبدو المسألة دقيقة للغاية. باسيل يريد أن يضمن كيف يمضي في لعبة الوقت والضغط على الحريري، من دون أن يتأثر سلباً، وتحديداً من خلال إعادة فتح وكر دبابير العقوبات الدولية. يراهن رئيس التيار الحر على أن الولايات المتحدة دخلت في كوما وفوضى الإنتخابات ومعها كورونا ولن تستفيق إلا بعد أسابيع، وهذا الوقت الأميركي الضائع يقابله وقت فرنسي ضائع (أزمة الرسوم وردود الفعل الإسلامية والدولية عليها).

في المقابل، يدرك الحريري أن للعرقلة حدود يجب أن تقف عندها. نجح باسيل في منع ولادة الحكومة قبل 3 تشرين الثاني/نوفمبر لكنه لن يحول دون تشكيلها في موعد آخر لن يكون بعيداً.. على ماذا يراهن الحريري؟

لا يجيب الرئيس المكلف، لكن من يسمع أحد الدبلوماسيين الأوروبيين في بيروت يدرك أن الحريري لا يراهن سوى على أمر وحيد: ورقة العقوبات الأوروبية التي وضعت للمرة الأولى بشكل جدي على طاولة دوائر القرار في المفوضية الأوروبية في بروكسيل.. وللبحث صلة.

المصدر : حسين أيوب – 180

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى