غثيان في لبنان سببه بلاد “الفايكينغ”!

وكأن الغيوم في تلك السماء ثقيلة، سميكة، تكاد توقف محركات الطائرة. “لن تفعل ذلك ما دامت بيضاء ناصعة”، تطمئن. رويداً، أو بالأحرى سريعاً، تترك السماء، فتظهر أرضٌ شبيهة بما يقال أنه… في السماء. جنّة حقيقية فيها بحيرات وأشجار كثيرة. منازل متراصفة بشكل غير عشوائي. من حيث لا تدري، تشعر بأنه عيد الميلاد، مع أنّ لا زينة مرفوعة ولا أضواء. لعلّه منظر تلك القرية ببيوتها القرميدية ما جلب “سانتا” إلى العقل. حسناً، تحاول قمع الحسرة التي بدأت تتسلل إلى داخلك، فتتذكر بأن السويد بلد كبير جداً من حيث المساحة، وهكذا خُلق منذ البدء: غابات “فظيعة” ومياه وفيرة. أما لبنان…ماذا عنه؟! “لقد كان أخضرا”… تتحسّر رغماً عنك.

في حقيبة السفر التي حملتها معك من “بلد الفينيق” “كيس كشك” وزجاجة فيها “دبس الرّمان” البلديّ. تبحث عنها في مطار غوتنبرغ، فلا تجدها. “شو القصّة؟” تسأل، مهيئاً نفسك للأسوأ. يُطلب منك التوّجه إلى قاعة الجمارك. تستقبلك شرطية وهي تبتسم:”هل هذه لك؟”. الحقيبة مفتوحة، لكنّ الثياب ما زالت مرتّبة. “كيس الكشك” في يد السيدة الشقراء. تبادر فوراً إلى إعطائها وصفة الحساء اللبناني اللذيذ، من دون أن تنسى البصل والثوم. تضحك مجدداً وتسارع إلى توظيب الأغراض في الحقيبة متمنية لك إقامة سعيدة.

في السوق الحرّة تستوقفك علب السجائر، ليس لأنك متلهف إلى إشعال سيجارة بعد رحلة امتدّت لأربع ساعات، بل لسبب “أهمّ”. تقف لبرهة متأملاً، مرعوباً. أمامك مباشرة، علب دخان بغلافات تثير الاشمئزاز. واحدة تحاكي رئتك السوداء، وأخرى تريك ورماً سرطانياً. يقع نظرك على الأسعار، فتسارع إلى إلقيام بعملية حسابية، لتفهم أخيراً أن ثمن العلبة الواحدة يلامس العشرة دولارات، ولتفهم أيضاً أن الدولة السويدية لا ترغب بسرقة شعبها، بل بالحفاظ على صحته!

تمضي من هناك متخليّاً عن فكرة المقارنة مع لبنان. “لشو وجع القلب؟ فلتبدأ العطلة”! لا تفلح، على مدى أسبوعين متنقلاً بين السويد والنرويج، بالكفّ عن المقارنة! “لا من باب الحسد ولا ضيقة العين”، بل من باب شرّعه وجعٌ غريب ما انفكّ ينخر في القلب. تعبر كلّ الشوارع وانت تسأل نفسك: “ماذا ينقصنا في لبنان كي نكون مثل “ربع السويد”؟”. المباني التاريخية هنا كثيرة، والهندسة المعمارية لافتة…لكنّ لبنان أيضاً بلد حضارة الستة آلاف سنة، أليس كذلك؟!

تعبر كلّ الشوارع وفي عينيك اندهاش عصيّ على الكبت. البلد كلّه متحف مفتوح! تماثيل، منحوتات، لوحات، رسومات على الجدران وحدائق. هنا في حديقة صغيرة، في بلدة صغيرة، تجد وسط الأشجار آلات لممارسة الرياضة. ونعم، بشكل مجانيّ!

تعبر كلّ الشوارع متنمياً رؤية قمامة على الأرض. أعقاب سجائر نعم، لكن لا أوساخ ولا تلوّث.

تصعد في الباص الأزرق. تشعر بأن كلفة المواصلات ليست زهيدة كثيراً، لكنك ترى أكياساً للقمامة عند كل مقعد. ستجد أيضاً مكاناً لشحن بطارية هاتفك وللاتصال بشبكة الانترنت. طبعاً، لن تجلس في المقاعد المخصصة لذوي الاحتياجات الخاصة أو الحوامل أو الكبار في السنّ.

بالبطاقة نفسها التي تنقّلت بها براً على متن حافلات النقل العام، سوف تنتقل بمركب بحريّ (نقل عام) إلى جزر غوتنبرغ. لا إمكانية لتوصيف روعة الأرخبيل أو نظافته أو هدوئه أو التسهيلات المتوافرة فيه.

لا أخبار كثيرة في السويد. ربما هناك، لكنها ليست أخباراً بالنسبة إليك. تمّ التحذير من وجود ثعلب في إحدى البلدات. التحذير طبعاً يهدف إلى التنبه لدى قيادة السيارة منعاً لدهسه.

تسمع بأن الأمطار تهطل بغزارة في لبنان. أما هنا، فقد سطعت الشمس، وهي عادة تحضر حتى الحادية عشرة ليلاً في مثل هذا الوقت. تقرر أن تقوم بالشواء، تحديداً إلى جانب بحيرة جميلة حيث تمّ تخصيص مكان للشواء ومقاعد خشبية وكلّ ما يلزم هذه الاستراحة. في “السوبرماركت”، سلع ومأكولات كثيرة جداً. تلجأ مجدداً إلى مقارنة الأسعار علّك تجد أن الشعب اللبناني أفضل حالاً من الأسوجيين هذه المرّة. عبثاً تصل إلى هذه النتيجة، فالأسعار متشابهة، وهو ما لا يمكن “هضمه”. كيف يدفع اللبناني الذي بالكاد يصل راتبه إلى مليون ليرة في الشهر والذي يسدد فواتير “مدوبلة”، ما يدفعه السويدي العائش في نعيم اقتصاديّ واجتماعيّ؟!

في السويد، لبنانيون كثر. تسألهم عن أحوالهم، فيفيض فوراً من عيونهم الحنين إلى لبنان. إلا انّ معظمهم يقرّ بأنه يستحيل عليه العيش في وطنه الأم مجدداً. تصمت أمامهم لأنك لا تجد ما تقوله. تغرق في صمت أكبر حينما يتذمرون من زحمة سير على الطرقات بعد الظهر. تهجس:”اين الزحمة؟! بالكاد هي أربع سيارات تنتظر الضوء الأخضر”!

تحمل هدوء السويد وتضعه في حقيبة السفر. يسقط سهواً لدى صعودك في سيارة الأجرة التي ستقلّك إلى منزلك، هنا في لبنان. “شو الأخبار”؟! تسأل.

حسناً، إنها كثيرة، إنها عديمة. ما من جديد. لكنّ القديم صار أسوأ. معادلة لا تفهمها. “هل أتوا بقانون انتخاب جديد”؟ تأتيك إجابات وتحليلات. يغمرك شعور قويّ بالقرف. بالغضب. بالوجع. تفكّر بالعودة إلى بلاد “الفايكينغ” التي كانت شعوبها همجية وشرسة في الماضي، فأصبحت من أكثر الشعوب التي تحترم الإنسان والأرض والقوانين.

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى