«أنتَ كل ما أملك»: عندما تتكلّم أمّهات الشهداء..

رقية كريمي – بيروت برس – 

أمسح شعرك الناعم. لا أستطيع أن أصدق. أحقًا استشهدت؟ أغمض عيني. أتمنى أن يكون كل شيءٍ مجرد منام لا أكثر. أحضن جثمانك وأعود بذاكرتي إلى طفولتك.

كنت أريد أن أجهضك..
عندما رجعت الى بيت أبي بعيونٍ باكية وكنت أعرف أنني لن أرجع إلى بيت زوجي من جديد. بعد زواجنا بمدة قصيرة. ربما شهر واحد. لا أتذكر. لا أرید أن أتذكر. عندما عرفت أنني حامل بدأت بالبكاء. كنت أرید أن أجهضك. لم أكن أريد أن يربطني شيء بالماضي. أخذت الموعد مع الطبيبة. مسحت بيدي على بطني الذي لم يكن يبدو عليه أثر للحمل.. وبدأت بالبكاء. كأنني كنت أسمع صوتك. كأنك كنت تبكي وتقول:
– ماما… ليس لي أحد غيرَكِ أنتِ. إسمحي لي أن أعيش
لم أذهب إلى موعدي مع الطبيبة. فتح والدي الباب، نظرت الى عينيه وقلت:
– لم أستطع
ابتسم والدي وحضنني. شعرت بالأمان في حضنه.
***

كنت أراقبك من النافذة وأشرب الشاي. كنت تلعب مع الأطفال بين الأشجار قرب بيتنا. كان في أياديكم الصغيرة سلاح خشبي. بعضكم كانوا يمثلون أنهم من القوات الإسرائيلية، وبعضكم مقاومة. كنت أسمع صراخك بصوتك الطفولي
– انا مقاومة… انا مقاومة….
ابتسمتُ بهدوء. كنت أشعر بالسعادة…
***

كنت أصرخ بقوة. وجدت نفسي في الشارع وأنت في حضني غارقًا بدمائك، فصرتُ أركض الى المستشفى حافية القدمين. لقد جرحتَ شفتيك بعد أن وقعتَ على الارض وأنت تلعب. كان الطبيب يعالج جرحك الصغير وأنا أرتعد.. مثل عصفورة تخاف أن يُدَمَّر بيتها.
سألت الطبیب: هل إبني بخیر؟
نظر إليّ من خلف نظاراته الكبیرة بتعجب، وقال “ابنك بخير ولكنني أعتقد أنكِ بحاجة للمعالجة”.
***

رأيتُ القيادي يبتسم. لم أفهم ما حدث. كان يمسح رأس كمال. جاء ليتكلم مع الأطفال في المدرسة. قال لي: سألت الأطفال ما هي أمنيتكم. كل الأطفال قالوا شيئًا. بينما كمال، قال أريد أن أستشهد في سبيل الله.
للحظة ارتعدت. يستشهد؟؟ أولا یعلم أنه كل حیاتي؟
***

هرع إلى البيت مع سلاحه الخشبي. كان عطشًا. طلب الماء. ملأ الكوب. كان يشرب بسرعة ليستكمل اللعب مع الأطفال. بعد أن شرب الماء، وضع الكوب على الطاولة. سمعت صوته الطفولي يقول بهدوء:  “صلى الله عليك يا أبا عبد الله”..
وعاد إلى الحي..
***

عشرون سنة. لا بل اكثر. كنا نخرج خلالها معًا من البيت. نذهب معًا الى المدرسة. انا كنت معلمة وأنت كنت تلميذي. عندما أخذتك أول يومٍ الى المدرسة أبيتَ أن تتركني لتدخل الى روضة الاطفال. كنت تريد أن تكون معي. وصل صوت بكائك إلى كل المدرسة، لدرجة أن كل المعلمين خرجوا من صفوفهم، والتلاميذ كانوا يراقبوننا. حضنتك بقوة.. وقلت بهدوءٍ في أذنك
– أنا هنا عزیزي.. لن أتركك!
***

لا أعرف كيف مضت كل هذه السنوات. في لحظة وجدت نفسي أراقب وأنت تسرّح شعرك الجميل أمام المرآة وتبتسم. مضت سنوات طويلة. قلت لي من جديد “غدًا أذهب إلى الدورة التدريبية”. تذكرت أول أيام ذهابك. كنت مثل عصفورة قطعوا رأسها وبدأت تضرب الأرض بريشها. ابتسمت وقبلتني، وقلت “أحضري حقيبتي من فضلك”، سأعود بسرعة.
***

كنت أرتب أوراقك. وجدت رسائلك لابن خالك الشهيد. كنتما تلعبان معًا منذ طفولتكما. كنت تحبه كثيرًا، وهو كان يحبك. بعد استشهاده، كنت أراك حزينًا أغلب الوقت. فتحت ورقة، وبدأت بقراءة رسالتك:
“قلبي يحن إلى من ليس تبصرهم عيني.. وإن ذكروا له وثبا
عجبوا له يرنو لمرقدهم.. ولست أرى من أمره عجبا”

جلست على الارض و ضممتُ الورقة إلى صدري وأجهشت بالبكاء.
***

في الليل، فتحت عيني ورأيت في الظلام دموعك تجري بصمت من عينيك الى الوسادة..  خفت كثيرًا.
– كمال… أحصل شيء ماما؟
فتحت عينيك الجميلتين، وقلت:
– لا. كنت أسمع زیارة عاشوراء قبل النوم.
أغمضت عينيك من جديد. كنت أرى قطرات دموعك التي كانت تجري من جديد، من عينيك الى خدك، ثم إلى الوسادة.
***

كنت اعرف أنك لا تذهب الی الدورة. أنا أمك. كيف يمكن ألّا أعرف بأنك تشارك في الجهاد. كنت أعرف هذا من وجهك المحمرّ تحت الشمس، من ملابسك التي كانت غارقة في الوحل.. وكنت تبتسم وتقول لي “أذهب الى الدورة ليس إلّا”..
***

كنت أصلي. عندما رفعت رأسي عن التربة اقتربت مني وقلت:
– ادعي لي… الآن… أجمل دعاء
قلت “أدعو لك بالصحة والعافية والتوفيق”
ابتسمت وقلت:
– ثم ماذا؟
نظرت إليك بغضب وقلت:
– ماذا ترید؟ تريد أن أدعو لك بالشهادة؟ لن أدعو. ألا تعلم أَلّا أحد لي غيرك؟؟
ابتسمت وقلت: السيدة الزهراء سلام الله عليها أم الشهداء
قلت لك: إفهمني يا كمال. أنا لست حتى تراب أقدامها
ضحكت وقلت “فكري بأم البنين كيف صبرت وقَد استشهد أبناؤها الأربعة”.
قلت باكية:
– كمال… لا أستطيع…
ابتسمت وحضنتني. قبلت جبيني وتركت الغرفة.
***

كنت أغسل الصحون. جئت إلى المطبخ وحضنتني من الخلف. لم أفهم كيف بدأت بالبكاء، كنت تراقبني بصمت.
– أحصل شيء.. ماما؟
هززت رأسي بالنفي. كنت أشعر بأنك ستتركني قريبًا
***

قلتُ لصديقك عباس:
– هو یحبك ويسمع كلامك. قل له أمك حزينة. لا تذهب هذه المرة.. من أجل أمك!
فأجبتَهُ أنت: ألا تحبون أنتم الشهادة؟ كیف تحبونها لأنفسكم وتمنعونني منها؟ إن استشهدت اطلبوا من أمي أن تسامحني وهي ستسامحني.
***

قلت: ماما أحضري حقيبتي من فضلك. صرخت وقلت: لا… لا أسمح لك أن تذهب. أين تريد أن تذهب؟ سوریا؟ القلمون؟ القصير؟ حلب؟؟ اين؟؟ لا تتركني. إن كان هذا واجبك فأنت لم تقصّر يومًا في ذلك. تتركني… تترك الجامعة؟!..
حضنتني وقلت “أعِدُكِ.. صدقيني لن أذهب إلى سوريا. فقط لمدة أسبوع أذهب إلى البقاع على الحدود لا أكثر. أعدكِ أنني سأعود وأدرس ولن اترككِ. ابتسمي”.
***

كنت حزينة. كنت ترتب شعرك أمام المرآة، وترش العطر. وأنا كنت أراقبك عبر المرآة، وقلتُ في نفسي بسرور: هل هذا ابني؟ طویل. رشیق. جمیل. ابتسمت ونظرت إليّ في المرآة، وقلت:
– يا لحظك وسعادتك يا كمال، لك أم صغيرة جميلة تراقبك عبر المرأة وتبتسم. ماذا تريد أكثر من هذا؟!
لم أستطِع ألّا أضحك.
قبلت جبيني وخرجت من الغرفة مع هذه الجملة:
– تصالحنا؟
فأجبتك بهدوء:
– تصالحنا
***

كان سریرك قرب سريري. ظننتك نائمًا. كنت اعرف أنه عندما سأذهب الى المدرسة غدًا، ستكون أنت نائمًا، وقبل ان أعود إلى البيت ستذهب. أخذت يدك باكيةً في الظلام.. كنت اريد اقبل يديك. فتحت عينيك ولم تسمح لي بذلك. قبلت انت يدي وقلت:
” انت أبي. أنتِ أمي. وكل حياتي. لا تقلقي، سأعود بسرعة. وهذه المرة لن اترككِ أبدًا”.
***

اتصلت أختي. كنت في الصف. لم أجب على الهاتف. اتصلت من جديد.. ومرة أخرى. خرجت من الصف:
– أهناك شيء؟
– أمنا مريضة جدًا. أسرعي إلى البيت.

وصلت الى البيت، وجدتُ زقاقنا مزدحمًا. كل أهل الحي اجتمعوا.. سقطت محفظتي من يدي. كل الحي كان یدور امام عیني مثل ذاك اليوم عندما حملتني في المدرسة وكنت تدور بين الغرف. وكنت تضحك. كنت أقول “أنزلني إلى الأرض. سيؤلمك ظهرك”. كنتَ تضحك وكل المعلّمين كانوا يضحكون معك. دخلت البيت.. كل العيون كانت متورمة. ارتعدتُ بشدة عندما سمعت اسم كمال. أغمضت عيني. ولم أسمع شيئًا آخر…
***

هجموا على الحدود. أصبت في صدرك بشدة. وصديقك أيضًا. كان يحاول أن يبعدك عن ساحة المعركة. كان يناديك:
– كمال.. أنت بخیر؟ لا تغمض عینیك. الآن تصل سيارة الإسعاف. هل تسمع كلامي. كمال
كان الرصاص ينزل من الارض والسماء
– كمال… هل تشعر بالألم؟
– لا. لا أشعر بشيء
أغمضت عینیك. قرّب صدیقك أذنه إلی فمك
كنت تقول بهدوء:
– یا حسین… یا زینب
***

أفتح كل صباح نافذة الغرفة، أنظر إلى سريرك الخالي وصورتك الباسمة فوق الجدار. أراقب لعب الأطفال في الحارة، عندما يلعبون بأسلحتهم الخشبية، وأسمع صوتك بين أصوات الأطفال تصرخ بصوت مرتفع:
– انا مقاومة.

 قصة بقلم الكاتبة الايرانية رقية كريمي عن لسان أم الشهيد كمال الدين كيكي

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى