بالصور | إنتظر فراس 39 سنة ليسمع كلمة ‘بابا‘…وبينما كان يصد هجوم الإرهابيين على البلدة، إستشهدت طفلته ‘ميرا‘

كومضة عين جاءت ميرا إلى هذه الحياة ورحلت، ضحكاتها الطفولية التي صارت من الماضي لا تزال تحرك أشواك الذكريات على فراس، الوالد المفجوع بأميرته الصغيرة التي تراخت حكايتها الجميلة إلى نهايتها المأسوية. بات البيت مقفرا إلا من أغراضها وألعابها ومشاغباتها وضحكاتها التي تحولت إلى صدى راح يتلاشى في الفراغ. بالأمس كانت هنا تلعب وتمرح قبل أن يعلن التكفيريون حربهم على الحياة ويسجلوا انتصارهم المدوي على الطفولة.

أعطت ميرا الطفلة الصغيرة لحياة والدها فراس طعما ولونا مختلفين، فالشاب الذي عاش يتيما مذ كان في العاشرة من عمره، وساهمت ظروفه المادية الصعبة في تأخير سن زواجه، انتظر لأكثر من تسعة وثلاثين عاما لكي يسمع كلمة “بابا”. بدت ميرا التعويض الرباني لفراس عن كل سنوات الخدمة التي قضاها في التعب والشقاء برفقة أسرة متواضعة قررت بيع الحافلة الوحيدة التي تمتلكها من أجل شراء السلاح لحماية البلدة التي بدأت رسائل الهلاك تصلها تباعا من قبل المسلحين في الجوار، ما دفع فراس واثنين من إخوته للتطوع في صفوف الدفاع الوطني كأول عائلة في البلدة رافقت الجيش في كمائنه في القنيطرة ودرعا وصولا إلى ريف دمشق، ووقفت معه في صد الاعتداءات على القرية، لكن الشاب المتفرغ للرباط على ثغور قريته حضر أوجد لنفسه الوقت الكافي بين كل معركة وأخرى ليقضيه برفقة ابنته ميرا.

المقاتل الشرس في الميدان بدا شديد الطواعية أمام السطوة الناعمة لبراءة طفلته التي لم يكن يرفض لها طلبا مهما صعب تحقيقه. كانت ميرا هي المستبدة الجميلة التي ود فراس ألا ينال منها يوما حريته. لم يخل مكان في الضيعة من أثر ” لمشاويرهما” ولا فات فراس يوما أن يوثق للحظات الفرح بها ومعها بصور متتالية من كاميرا موبايله، لم تفارقه صورتها وهي ترفع يدها له بالدعاء في ” مقام الضيعة” واصطحابه كذلك لها إلى الينابيع من أجل وضع رجليها الصغيرتين في المياه الباردة خلال الأيام القليلة الحارة التي تمر على البلدة الواقعة في سفوح جبل الشيخ، وكم وكم من الذكريات. بين كل معركة ومعركة كانت الحياة مع ميرا هي استراحة المحارب بالنسبة لفراس الأب، وعن هذا الحد من التعلق كان فراس يعتقد بأن الحياة قد ابتسمت له أخيرا بوجود ميرا ولم يطف بباله أن الأيام القادمة ستكون حبلى بمشهدية دامية ستلجم خيول آماله وتحيله جرحاً مفتوحا على الذاكرة المتخمة بسنتين وشهرين من الفرح المفقود. سنتان بعمر الزهور شكلتا رحلة ميرا القصيرة في هذه الحياة.

لحظة الفراق

في تخوم حضر، كان فراس يرابط برشاشه الـ 23 على الجبهات حين أطلق المسلحون معركة “وبشر الصابرين”. اعتاد قبيل كل معركة أن يرسل ميرا وأمها إلى بيت أهل زوجته المؤلف من طابقين، والمبني من الحجر الذي لا تخترقه شظايا قذائف التكفيريين. كان الهدوء الذي يسبق العاصفة ذلك الذي خيم على أهالي حضر عصر ذلك اليوم الخامس عشر من أيلول للعام 2016 . الأمان الطويل نسبيا الذي أفسح به التكفيريون في الجوار لم يكن غير الطعم الذي أرادوا من ورائه تشجيع الأهالي على الخروج من منازلهم بغية حصد أكبر عدد من الأرواح المستسلمة للهدوء الكاذب. ابتلع الأهالي جزءا من الطعم، فمع تململ الأطفال، وبعد ساعات من التربص في البيت، لم يكن هناك بد من إخراجهم من الغرفة الداخلية المعتمة إلى الشرفة المطلة على الخارج، بعدما اعتقدوا أن اليوم سينتهي آمنا كما بدأ.

لم تكد الساعة تدق الرابعة عصراً حتى سقطت القذيفة الأولى على البلدة أعقبها سقوط أكثر من ستين قذيفة هاون وصاروخ. في هذا الوقت، وعلى توقيت المنية التي لا تخطئ، كانت ميرا تلعب مع أولاد خالها، عندما سقطت قذيفة في بيت الجيران لتخرج على الأثر شظية صغيرة اخترقت باب الدار وحماية النافذة، وأصابت ميرا إصابة قاتلة في شفتها، وخرجت من خلف رأسها، وقف الجميع مذهولين قبل أن تهرع أم ميرا إلى ابنتها محاولة فداءها بروحها. نالها كذلك من الشظايا ما لم تستطع معه تجنيب ابنتها الموت وتجنيب روحها الفجيعة الدائمة فقد كان القدر أوسع خطوة وسبق لهفتها بأشواط.

مع رؤية القذائف تنهال على الضيعة توجس فراس من صوت جواله الذي راح يرن بقوة وكأنه يستعجل الخبر الحزين. بحثِّه على النزول مباشرة إلى المشفى الميداني في الضيعة حاول الأصدقاء أن يقسطوا وقع الخبر الصاعق عليه، لكن حدس الأبوة لا يخيب. داخل فراس شعور قوي بأن ثمة مكروه ما قد أصاب ابنته ميرا ، أية خواطر مرت بباله وهو في طريقه إلى المشفى يقطع دروب الشك إلى راحة اليقين. لعله حدث نفسه بأن الأقدار قد ترأف بأبوته، هل ستعيش ميرا لتبقى كما كانت ” رفيقة الدرب الجميل ” أم أنها اختارت لنفسها طريق النور إلى قبة السماء، هل سيراها ثانية أم أن الحزن سيعود ليكون جليسه القهري على المقاعد الخلفية من هذا العمر. أياً يكن ما عصف في قلب فراس فقد بقي فيه حيز وازن من الإيمان الذي جعله يحتفظ ببقية توازن أمام المشهد المهول، لحظة وصوله كانت ميرا تلفظ أنفاسها الأخيرة بين أطباء عطل القدر. كل مباضع الأمل في أيديهم، وعلى بعد دموع من الجسد الطفولي المرتعش ارتعاشته الأخيرة كانت أمها وبيت جدها وأعداد كبيرة من أهالي الضيعة يستعطفون الأقدار كي تتراجع، “الله يعطيكم العافية ما قصرتوا” هتف فراس بالأطباء مضيفا ” إذا ما في أمل ما بدي عذبها اكتر من هيك “وقبل أن يجيب الأطباء ..تولى القدر الإجابة، فلقد أطبق الموت بأصابعه الباردة على الطفلة الملاك حاسما آخر جولات صراعه مع حياتها، حينئذ التفت فراس إلى الجمع الباكي يهتف فيه بالكثير من الإمتنان والتوسل ” بشكر حضوركم، وأرجوكم غادروا فورا، المشفى الميداني مستهدف بالقذائف وما بدي حدا منكم ينصاب، ما بدي ميرا تكون سبب بفجيعة جديدة لحدا منكم، بدي أدفنها بكل اللي فيها من النقاء، مأجورين يا أخوان” .

عروس تزف

حمل فراس جثمان ابنته ميرا من المشفى إلى بيت جدها. فتح خزانة ملابسها واختار لها فستانا أبيض نقيا كنقاء سريرتها، لم يكن يعلم أن هذا الفستان الذي اشتراه لها لمناسبة خطبة خالها سيغدو كفن موتها وكفن سعادته المغيبة برحيلها، وطوال الطريق إلى المقبرة، بقي فراس ضاما ابنته إلى صدره فيما قذائف التكفيريين تتساقط على جانبي الجنازة التي لم تتجاوز النصف ساعة لتطوى بعدها صفحة ميرا من الحياة. كان فراس حريصا على المشيعين ألا تصيبهم القذائف، لكنه كذلك كان ضنينا على كل وقت يفوته بعيدا عن ميرا، فما كاد يوسد جسدها الغض التراب بعدما عانقها طويلا وشكر المعزين حتى امتشق سلاحه مجددا وانطلق يخوض غمار المعركة التي كانت لا تزال قائمة مع التكفيريين على تخوم البلدة، فهي المكان الوحيد الذي يمكنه فيه أن يضرب لنفسه موعدا قريبا مع ميرا، فهنالك حيث تقطن في الأبدية لا إرهاب ولا فراق ولا خوف بل سعادة سرمدية وأطفال لا سلطان لقذائف الموت على ضحكاتهم .

العهد نيوز

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى