‘تضحكو بلا اسنان’…!

ماذا يُفهم من ردود فعل الشعب اللبناني حيال عاصفة استقالة رئيس الحكومة سعد الحريري من السعودية (وما سبقها وما سيعقبها)؟! حقاً، ماذا يُفهم من موجات الضحك والنكات والتوّقف عند السطحيات أو التفاصيل التي لن تقدّم أو تؤخر في واقع الحال والحقيقة؟! لماذا يتصرّف اللبنانيون كأن ما يحدث ليس إلا مقلباً تلفزيونياً أو مشهداً من فيلم كوميديّ أو كأنهم من سكان المرّيخ الذي سيعودون إليه غداً صباحاً؟!

هل لأن ما جرى ويجري صعب “الهضم” والاستيعاب حدّ توّلدت ردود فعل “غير طبيعية”؟ أو هل لأنهم اعتادوا المفاجآت وما عادت “تفرق معاهم” طالما أنّ الموتور شغّال و”النرجيلة” و”الواتساب” كذلك؟ أم لأن قمّة اليأس والحزن تنعكس ضحكاً واستهزاء في محاولة لإنكار الواقع أو التهرّب منه؟ هل لأنهم لا يجيدون قراءة التطوّرات بأبعادها الواسعة التي تتخطّى تغريدة من هنا أو موقف زعيم من هناك؟ هل لأنهم خفيفو الظلّ وسريعو البديهة عندما يتعلّق الأمر بابتداع النكات والمقالب والتحليلات “الخنفشارية”؟ أم لأنهم ما زالوا مأخوذين بموجة التهدئة التي أرستها الطبقة السياسية الحاكمة راهناً في انتظار اتضاح الصورة؟!

حقاً، ماذا عليهم أن يفعلوا بعيداً من إغراق وسائل التواصل الاجتماعي بالـ “كومنتس” التي تسأل عما إذا كان الحريري قد غيّر ربطة عنقه أو استعاد ساعته الذكيّة؟! هل عليهم أن يخافوا ويرتعبوا ويجّهزوا حقائب السفر؟! هل عليهم أن يتأهبوا ويصطفوا أمام زعمائهم ومرجعياتهم بانتظار لحظة المواجهة، أو الدفاع عن النفس؟ هل عليهم أن يملأوا “السوشيل ميديا” بصراخ الوجع والذعر والنجدة؟!

المرحلة صعبة ودقيقة ومحفوفة بالمخاطر. هذا ليس توقعاً أو مبالغة، بل هذه حقيقة ساطعة بدليل السوابق التي تُسجّل بما فيها طريقة استقالة الرئيس الحريري والمواقف التصعيدية الصادرة عن المسؤولين السعوديين، والتي أعقبت بطبيعة الحال مواقف وسلوكيات تصعيدية من قبل الطرف الآخر المتمثل بإيران ومحورها. فماذا يعني وصف الحكومة اللبنانية بـ “حكومة حرب”؟ وماذا تعني دعوة السعودية واستطراداً الكويت رعاياهما إلى مغادرة لبنان؟ ماذا لو حذت دول الخليج كلّها حذو المملكة؟ وماذا لو قررت تلك الدول أن تُصعّد أكثر فطردت اللبنانيين من أراضيها؟!

المرحلة صعبة ومحفوفة بالمخاطر اليوم والآن. فالمواجهة السياسية العنيفة قد تُستكمل لاحقاً بـ “ضربات” أقوى، لكنها في الوقت الراهن ضربت حُكماً الحالة الإقتصاديّة، (وليس بالضرورة النقدية والتي يدأب مصرف لبنان على حمايتها). والحال أنّ الأشغال باتت شبه متوّقفة والمشاريع عُلّقت والأسعار قد ترتفع أكثر مما كانت عليه في المرحلة القريبة الماضية. امرٌ قد لا يحتمله الشعب اللبناني المُنهك اقتصادياً واجتماعياً أصلاً، ما يزيد في الطين بّلة.

ولذلك، يبدو من الملّح الابتعاد بعض الشيء عن تسخيف الأمور وعن التعلق بالسطحيات. وهذا ما ينسحب على وسائل الإعلام أيضاً. فهل الأزمة محصورة فقط باستقالة الحريري من أرض الرياض وبغيابه عن بيت الوسط، أم أنها تتعدّى ذلك لتشمل مسبباتها ونتائجها؟!

المطلوب الآن، من الشعب اللبناني ووسائل الإعلام وجميع السياسيين والمعنيين الكثير من الحكمة والوعي والكثير الأكثر من التضامن. هذه ليست “كليشيهات” وتمنيات وقصائد على ورق.

ولعلّ المطلوب من الشعب اللبناني بشكل رئيسي هو أن يتعظ ويتعلم من دورس الماضي. ليس رئيس الحكومة “مُختطفاً”، بل لبنان. منذ لحظة التمديد الأول للبرلمان، لبنان سلك درب الألغام، وليست “التفجيرات” الحاليّة إلا محطة “طبيعية” في هذا المسار الذي شهد فراغاً رئاسياً وتمديدات متتالية للمجلس النيابي وحكومة ولدت من تسوية. على الشعب اللبناني أن يفهم أن السماح للزعماء والسياسيين بزجّ هذا البلد في صراعات الآخرين أو تقديمه على طبق من فضة لدول الخارج، لا يمكن أن يستمرّ بعد اليوم، اللهم إذا ما رغب هذا الشعب ببقاء وطن اسمه لبنان.

المطلوب منه المضي في هذا الهدوء الذي يعايشه اليوم. هدوء حقيقي صادق، وليس هدوءاً فرضته لغة الحكام والزعماء الراهنة

المطلوب منه التجرّد من كلّ طائفيته وحزبيته وميوله السياسية والأيدولوجيّة، والتسمك بالمواطنة والدستور والمعنى الحقيقي لرسالة لبنان.

ولعلّ المطلوب من وسائل الإعلام في هذه المرحلة الاستثنائية أكثر بكثير مما يوضع على كاهل المواطن المُتعب والمبُتسم في آن. قد يكون الاستغناء عن مقدمات نشرات الأخبار “الحامية” والمليئة بالتلطيشات حيناً والاتهامات المباشرة في حين آخر أفضل ضروب الحكمة والذكاء.

أما بالنسبة إلى الممسكين بالسلطة والزعماء والسياسيين، فما من مطلوب سوى العودة إلى الوطن. كفاهم إقامات جبرية في أجندات خارجية ومصالح ضيّقة. وكفانا منهم استيقاظاً مفاجئاً ومزاجياً على الدستور اللبناني، فهل أقرف من أن نسمع اليوم، بعد نسف الانتخابات النيابية ثلاث مرات وسلب المواطن حقه البديهي باختيار ممثليه، من يذكّرنا بأن الشعب اللبناني وحده من يقرر مصيره ومن يختار الممثلين عنه؟!

كلّ الرجاء أن تمرّ هذه المرحلة الصعبة بأسرع ما يمكن وبأقلّ الأضرار الممكنة كي يتسنّى لنا جميعاً، وبحسب المثل الشعبي الذي يدعو إلى عمر طويل، أن “نضحك بلا أسنان”!

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى