أين ذهبت دولارات المودعين؟

الأزمة الإقتصادية التي بدأت معالمها في الظهور منذ إقرار سلسلة الرتب والرواتب في العام 2018 مع زيادة العجز في الموازنة والإنكماش الحاد في القروض المصرفية وإرتفاع نسبة الفوائد، تُرجمت في النصف الثاني من عام 2019 بسبق من قبل المودعين لسحب ودائعهم من المصارف اللبنانية خوفاً على شقى عمرهم. بالطبع ترافق هذا الواقع مع قيود خارجية من قبل المجتمع الدولي، وخاصة الولايات المُتُحدة الأميركية، على قدوم الدولارات إلى لبنان مما زاد الضغط على كمية الدولارات في القطاع المصرفي.

أداء المصارف اللبنانية

رأى كثيرون أن أداء المصارف اللبنانية لم يكن على مستوى الأزمة، أقلّه في التعاطي مع المودعين! فقد شهدنا العديد من ردّات الفعل غير المؤ اتية لموظفين في قطاع مشهود له بالحرفية وصُنّفّت مصارفه على لائحة المصارف الخمسمائة الأولى في العالم. وكثرت الأصوات التي نددّّت بالأخطاء التي شابت عمل المصارف وقرارات القيمين عليها نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر قرار الإقفال في الأسبوعين الأولين من انطلاق موجة الاحتجاجات في 17 تشرين الأول عام 2019 وهو ما خلق تهافتاً غير مسبوق على الودائع، لا يستطيع أي قطاع مصرفي في العالم تلبيته. الجدير ذكره أنه في عزّ الحرب، لم تُقفل المصارف اللبنانية أبوابها، حتى خلال عدوان تموز 2006، إذ أقفلت المصارف أبوابها فقط ثلاثة أيام ثم أعادت فتح أبوابها.

ومما يركزّ عليه أهل الاقتصاد، مخاطر التركيز التي ارتكبتها المصارف في قراراتها الاستثمارية، وإذا كان من المعروف في النظرية المالية أن الإستثمار في سندات الخزينة هو الأقل خطراً، إلا أن ذلك خاص في العملة الوطنية لا العملات الأجنبية، هذا من جهة، وأما من جهة أخرى فإن المصارف اللبنانية كانت تعرف مسُبقاً بواسطة مديريات المخاطر لديها أن المخاطر الائتمانية للدولة اللبنانية كانت ترتفع مع الوقت إرتفاعاً مريبا. وعلى الرغم من ذلك إستمرّتّ هذه المصارف بإقراض الدولة ضاربة بعرض الحائط نصائح مديري المخاطر مع تجاهل شبه كامل لتمويل الشق الإستثماري من الإقتصاد أي تمويل الشركات. على هذا الصعيد، ومما يذكر في هذا المجال أن أحد مدراء المصارف المعروفة قال عام 2008 لمن عرض عليه القيام بإستثمارات في بعض القطاعات، «لماذا تُريدني أن آخذ مخاطر في القطاع الخاص أو في الأسواق المالية، ما دام الاستثمار في سندات الخزينة يؤمّن لي 7% عائدات مع ضمانة الاستثمار»!

وعلت خلال هذه الأزمة صرخات تتهم المصارف اللبنانية بإتباع سياسة تعامل إستنسابية وأنها لا تزال تتبعها إلى الآن إلى جانب إمتناع المصارف الأخرى إتباع أسلوب الشفافية خلال الأزمة مع موديعها مما أدّّى بموظفيها إلى الهروب من وجه المودعين لعدم وجود أجوبة مُقُنعة لديهم لما يحصل فعلياً! وعليه علت النقمة على القطاع المصرفي بكامله مدعومة

بتجييش إعلامي كبير من تيارات فكرية مُناهضة للنظام المصرفي خاصة وللرأسمالية عامة.

أداء المودعين

غالب المودعين لا يفقهون العلم المصرفي، وجل ما يعرفه البعض أنه إئتمن المصرف على أمواله وبالتالي يُرُيد إستعادتها نظراً لقدسيتها بالنسبة إليه. هذه القدسية المضمونة في الدستور اللبناني، دفعته إلى سحب الأموال ووضعها في المنازل حيث أخذ الطلب على الدولار الأميركي في الإرتفاع بشكل غير مسبوق .س حب الودائع بدأ عمليًاً بالليرة اللبنانية والدولار الأميركي قبل بدء الأزمة ببضعة أشهر ويُضُاف إلى ذلك تحويل الليرة إلى دولار أميركي خارج القطاع المصرفي مما خلق سوقًاً سوداء فرضت نفسها بوجود الطلب من قبل المودعين والتجار والعرض من المضاربين.

أداء السلطات الرسمية

لم يكن أداء السلطات الرسمية على قدر مستوى الأزمة هو أيًضًا، فقد تأّخّر قانون الكابيتال كونترول الذي كان يتوّجّب فرضه منذ اللحظات الأولى من الأزمة ولفترة محدودة وذلك بهدف تهدئة النفوس ومنع المضاربة وتهريب الأموال. إلا أن ذلك لم يحصل حتى الساعة وهذا ما سمح ـ ويسمح إلى وقتنا هذا ـ لبعض أصحاب النفوذ تهريب الأموال إلى الخارج ويسمح أيضا للمصارف بالتعاطي مع المودعين باستنسابية مُرُيبة وللمضاربين بإستكمال أعمال المضاربة بكل حرّية .

ودائع المودعين بالعمّلة الصعبة

أين ودائع اللبنانيين بالعمّلّة الصعبة؟ هل تبخّرّت كما يُقال؟ وهل سيتمكّنّ المودعون من إستعادتها؟ هذا ما سنُحُاول الإجابة عليه في هذا المقال.

أرقام مصرف لبنان تشُير إلى أن الودائع بالعملات الصعبة (مُعُظمها بالدولار الأميركي) إرتفعت من 106.9 مليار دولار أميركي في كانون الثاني 2017 لتصل إلى أعلى مُسُتوى لها في شهر آب 2019 مع 3.123 مليار دولار أميركي، لتخفض بعد بدء الأزمة إلى 111.5 مليار دولار أميركي في تشرين الثاني 2020 أي أنها إنخفضت بقيمة 11.8 مليار دولار أميركي في فترة 14 شهراً.

السؤال المطروح للفترة التي سبقت الأزمة: أين تمّ توظيف هذه الأموال؟

تشُير الأرقام أن وضعية المصرف المركزي بالعملات الأجنبية بتاريخ 2019/12/31 كانت على النحو التالي:

– الذهب: 13.939 مليار دولار أميركي

– الاحتياط من العملات الأجنبية: 37.267 مليار دولار أميركي

– «Overdraft» لوزارة المال: 15.446 مليار دولار أميركي

– الإحتياطي الإلزامي: 19.313مليار دولار أميركي

– قروض للمصارف 5.451 مليار دولار أميركي

– ودائع وشهادات إيداع: 79.920 مليار دولار أميركي.

في المقابل بلغت قيمة الودائع بالعمّلّة الأجنبية في المصارف التجارية في 2019/12/31 أي ما يُقُارب الـ 119.86 ملياردولار أميركي منها: 80 مليار دولار أميركي موّظّفة من قبل المصارف التجارية في مصرف لبنان. أضف إلى ذلك قروض للدولة اللبنانية على شكل سندات يوروبوندز بقيمة 19.9 مليار دولار أميركي، كما أن مجموع القروض إلى القطاع الخاص بلغت 59.56 مليار دولار أميركي (بالليرة اللبنانية والدولار الأميركي). و بما أن الأرقام غير متوافرة عن كيفية توزيع هذه القروض بين الليرة والدولار، وبفرضية أن 70% منها هو بالدولار الأميركي (أي ما يوازي 41.69 دولار أميركي)، فإن المجموع يُظُهر إنكشافاً بقيمة 31.36 مليار دولار أميركي. الجدير ذكره أن المصارف اللبنانية كانت تمتلك ما يُقُارب العشرين مليار دولار أميركي في المصارف المراسلة.

إذًاً من أين أتت المصارف التجارية بـ 31.36 مليار دولار أميركي لإقراضها؟ الجواب على هذا السؤال يستدعي توضيحًاً عن كيفية إستهلاك الدولارات في لبنان.

أين تذهب الدولارات؟

المسح التقني للطلب على الدولار يُظهر أن دولارات مصرف لبنان كانت تغُّطّي القطاعات التالية:

أولاً ـ إستيراد السلع: في العام 2019، بلغ حجم الإستيراد من الخارج ما يُقُارب العشرين مليار دولار أميركي (19.64بالتحديد). هذه الدولارات كانت تأتي من قبل المصارف على شكل إعتمادات بالدرجة الرئيسية. في المُقُابل بلغ حجم التصدير3.73 مليار دولار أميركي (قسم كبير منها لا يعود إلى لبنان خصوًصًا بعد أزمة تشرين 2019) مما يعني أن الفارق هو خروج الدولارات بقيمة 19.15 مليار دولار أميركي .

ثانياً ـ السياحة الخارجية: في العام 2019، بلغ عدد السائحين اللبنانيين إلى الخارج ما يوازي الـ 500 ألف شخص، وهو ما يعني خروج للدولارات بقيمة لا تقّلّ عن 2.5 مليار دولار أميركي.

ثالثاً ـ دين الدولة بالعملة الصعبة: مدخول الدولة اللبنانية هو بالليرة اللبنانية وبالتالي فإن سداد كل القروض بالعملات الصعبة يأتي من مصرف لبنان الذي يدفع الفوائد ورأس المال من إحتياطاته. وقد بلغ متوّسّط خروج الدولارات إلى خارج لبنان ما يُقارب المليار ونصف مليار دولار أميركي (على أساس 11 مليار دولار أميركي سندات ممسوكة من الخارج بالإضافة إلى إستحقاقات الدين الثنائية والمتُعددة ضمن مؤتمرات باريس).

رابعاً ـ تثبيت سعر صرف الليرة مُقابل الدولار الأميركي والذي قّدّرته الخطة الحكومية بـ 48 مليار دولار أميركي على فترة الثتبيت أي ما يوازي المليار ونصف مليار دولار أميركي سنوياً.

خامساً ـ القروض للقطاع الخاص: في كلّ مرّة كان يتم ّ إقراض القطاع الخاص، كانت عملة القرض بالدولار الأميركي بإستثناء الإسكان وبعض القروض البسيطة. وقد بلغ حجم القروض بالدولار الأميركي في العام 2019، 41.69 مليار دولار أميركي. وهذه القروض كان يتم ّ دفعها بالليرة اللبنانية. وقد يقول البعض أنها بقيت في القطاع المصرفي (وهذا حّقّ)، إلا أن ما يتوّجّب معرفته أن هذه القروض كانت تُستخدم في الإستيراد أي أن خروجها كان فعليًاً من الدورة المصرفية .

سادًسًا ـ التحاويل إلى الخارج: بُعُيد إقرار سلسلة الرتب والرواتب، قام العديد من المودعين الكبار بتحويل أموالهم إلى الدولار الأميركي والعملات الصعبة والعديد منهم قام أيضا بتحويل قسم كبير من هذه الأموال إلى الخارج. وقد خرجت إلى العلن صيحات تندد بتحويل بعض المودعين النافذين أموالاً إلى الخارج في حين كان يمنع على المودعين الأخرين سحب أموالهم في المصارف مما يضع المصارف أمام مخالفة قانونية تتمثّلّ بالإستنسابية.

سابعاً ـ إستهلاك القطاع العام: هناك نوعان أساسيان لاستهلاك الدولارات في القطاع العام. يتمثّلّ الأول بشراء السلع والبضائع مثل فيول كهرباء لبنان الذي استهلك ما يُقُارب الـ 1.5 مليار دولار أميركي سنويًاً ولـكن أيًضًا الخدمات التي كانت تطلبها الدولة اللبنانية من شركات إستشارية خارجية، بالإضافة إلى رحلات السفر والتنقل وغيرها. ويتمثّلّ الإستهلاك الثاني للدولارات في القطاع العام، في دفع أجور وُمُخصصات البعثات الديبلوماسية الموجودة في الخارج.

ثامنًاً ـ سحوبات المودعين: قسم كبير من اللبنانيين وخصوصا في الفترة الممتدة من آب 2019 إلى كانون الأول 2019، قاموا بسحب ما إستطاعوا من دولارات من المصارف. كذلك قام العديد منهم بسحب كميات كبيرة من الأموال التي وضعوها في صناديق آمنة في المصارف (Safe-box)، وهذه الأرقام لا يمُكُن التهاون بها.

تاسعاً ـ تهريب الدولارات إلى خارج الحدود وهو أمر يأخذ شكلين، الأول من خلال السلع والبضائع التي يتم ّتهريبها، والثاني من خلال نقل دولارات بهدف بيعها وتحقيق أرباح عالية.

من كل ما ورد أعلاه، يظهر أن استهلاك الدولار الأميركي (خصوًصًا الاستيراد) فاق كل الودائع بالدولار الأميركي. فهل إختفت الودائع؟

الجواب على هذا السؤال يبدأ من الدستور الذي يضمّنّ حق الملـكية والمحافطة عليها وبالتالي لا يُمُكُن القبول بعبارة «إختفت الودائع»! إذاً كيف يُمُكن إعادة الأموال إلى المودعين إذا كان لا يوجد دولارات؟

في الواقع، الطلب على الودائع آت من جميع ما ورد أعلاه. فلو كان المودع مطمئناً إلى أن أمواله محفوظة وحتى لو لم تكن متوافرة الآن، فإن الطلب حتمًاً سيخف على هذه الودائع. لذا ـ ولا مفر من ـ إعادة تكوين هذه الدولارات من خلال النشاط الإقتصادي. هذا الأمر يفرض خّطّة حكومية تعمل بالتوازي على عدة جبهات:

أولا – دعم الصناعة والزراعة اللذان يعدان العامود الفقري للنهوض الإقتصادي. وهذا الأمر يتطلّبّ من الدولة وضع أراض من أملاكها (نهرية وغير نهرية) لخلق مدن صناعية ومساحات زراعية تسمح بتلبية الطلب الداخلي والبدء بالتصدير وهو ما سيؤدّي إلى دخول الدولارات إلى السوق المحليّ.

ثانياً ـ دعم القطاع السياحي من خلال الذهاب إلى الإغتراب اللبناني. على هذا الصعيد، يتناسى البعض أن هذا الإغتراب كان يدر على لبنان أكثر من 15 مليار دولار أميركي (7.9 مليار تحاويل و7.5 مليار إنفاقاً سياحياً)، لذا من الواجب تنفيذ ما إقترحته ماكنزي في خطتها في ما يخصّ الشق السياحي.

ثالثًاً ـ خلق مدن تكنولوجيا من خلال وضع الجامعات والشركات الخاصة في مدن تكنولوجية تكون ملكاً للدولة اللبنانية وتسمح للقطاع الخاص بتمويل أبحاث جامعية ذات طابع تطبيقي قد تتحول إلى منتوجات لبنانية.

رابعاً ـ إعادة هيكلة القطاع العام من خلال الشراكة بين القطاعين العام والخاص. هذا الأمر يتم ّ من خلال تحويل موظفين من الدولة إلى هذه الشركات مع كل تلزيم بحيث يُصُبح هؤلاء موظفين في هذه الشركات ويستمرون في أداء مهامهم. أيًضًا يتوّجّب إقفال أكثر من 90 مؤسسة غير ُمُجدية تزيد كلفة القطاع العام. أما المؤسسات التي لا يُمُكُن إلغاؤها مثل شركة الـكهرباءأو الإتصالات أو المرفأ، فيتوجب القيام بعملية شراكة مع القطاع الخاص نظراً إلى فعالية القطاع الخاص.

خامساًـ إعادة هيكلة القطاع المصرفي بطريقة تسمح بتفادي تكرار القرارات الجائحة وأخطاء الإستثمارات والتي عجزت لجنة الرقابة على المصارف عن تفاديها.

سادًسا ـ إقرار والعمل على ضمان إستقلالية القضاء الذي يُعُتبر العنصر الأساس في إستعادة الثقة ومحاربة الفاسدين في أي منصب كانوا ومهما كانت حولهم مما يسُمىّ «خطوط حمر»! وهذا الأمر يمر حتماً بالتدقيق الجنائي تحت رقابة هذا القضاء المسُتقّلّ.

سابعًاً ـ التفاوض مع صندوق النقد الدولي بهدف دعم مالية الدولة وإعفائها من ملاحقات قانونية نتيجة التخلّفّ عن دفع السندات، إضافة لإستعادة ثقة المُسُتثمرين. وهذا الأمر يفرض إقرار قوانين عّدّة وعلى رأسها الكابيتال كونترول .لـكن هنا يجب الإنتباه إلى خطورة التحرير الكامل لسعر صرف الليرة والذي قد يؤذي بشكل كبير المجُتُمع اللبناني، ويخلق فوضى يصعب الخروج منها.

ثامنًاً ـ وضع سلّةّ من القوانين تتضمّنّ السياسة الجمركية، والتنافسية، والضرائب، والسياسة النقدية، والسياسة الإقتصادية وغيرهامن القوانين التي تُسُاعد مناخ الأعمال.

بالطبع هناك العديد من الخطوات الأخرى التي من الواجب القيام بها وعلى رأسها تأمين شبكة أمان إجتماعي للمواطن اللبناني المهُّدّد بأزمة أخطر من الأزمة الحالية.

ختامًاً لمن يقول أن الخروج من الأزمة مُسُتحيل، نضع بين يديه مثالاً حياً ألا وهو أن شركة كشركة مايكروسوفت الأميركية والتي تفوق قيمتها التريليون دولار أميركي، أصولها الأساسية هي برامج كومبيتر، فكيف حال دولة مع أصول عديدة مثل الدولة اللبنانية؟ ألا يُمُكنها أن تكون في وضع أفضل؟ بلى، هذا ممكن، شرط نفي الفساد غير الممكن.

المصدر : البروفسور جاسم عجاقة – الديار

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى