عن السيد موسى الصدر المغيّب..

في مرور 39 عاماً على تغييب الإمام السيّد موسى الصدر (31 آب 1978)، لا تُفتقد الشخصية الكارزمية القيادية للعالم والمفكر والفيلسوف والسياسي والزعيم الديني فحسب، بل تستحضر الرؤية التجديدية، والفكر النهضوي، والدور الجامع.. في لحظة الغرق السياسي بالسجالات الداخلية العقيمة التي تستنسخ بدقة ما قاومه الإمام المغيب وعمل على تصحيحه؛ غياب الدولة، وانتفاء المواطنة، وتضعضع الوحدة.
ترك موسى الصدر الكثير من المواقف والمبادرات. والكثير من المبادئ العامة التي توصل إلى الدولة الحاضنة لأبنائها جميعا، وإلى الوحدة الوطنية التي تلم شمل اللبنانيين جميعا، وفي تجاهل اللبنانين، كل اللبنانيين، لهذا الإرث الرحب، إساءة إلى ذكراه، وإلى أنفسهم ووطنهم ومجتمعهم، ذلك أنه نظّر وعمل ودعا إلى ترميم الوحدة الوطنية الهشّة، وإلى تدعيم الدولة المترنحة من خلال جعلهما امتداداً عميقاً ومتساوياً في العقل والضمير والوجدان في ثلاثة اتجاهات متكاملة: في مواجهة العدوان الإسرائيلي الذي اعتبره عدواناً وجودياً وليس احتلالياً فقط، وهو صاحب العبارة المشهورة: “إسرائيل شر مطلق”، وفي تعزيز الوحدة الإسلامية ـ الإسلامية داخل لبنان وخارجه، وهو الذي كان مهموما بقضايا العالم الإسلامي كله، وكان معنياً بالعلاقات الإسلامية ـ الإسلامية، عنايته بالعلاقات الإسلامية ـ المسيحية. أما الاتجاه الثالث ففي إقامة وحدة وطنية وقد كان مجدداً في ثقافة الحوار الإسلامي ـ المسيحي الهادف والبنّاء، سواء في أدبياته الدينية أو في سلوكه الوطني العام، وكانت رسالته هي صيغة عيشه الوطني الواحد بين المسلمين والمسيحيين في إطار من الحرية والاحترام والمحبة المتبادلة.
إن إحياء ذكرى تغييب الإمام الصدر، داعية الوفاق والعامل لأجله، تأخذ أبعادها وقيمتها الحقيقية من خلال إحياء ما عمل لأجله وتمسك به من قيم وطنية ودينية جامعة. لقد ترك وراءه منهجا للوحدة الإسلامية ـ الإسلامية، وللوحدة الوطنية الإسلامية ـ المسيحية، وهو الركن الأساس في قمة عرمون برئاسة المفتي الشهيد حسن خالد وغيرها من اللقاءات الرافضة للحرب الأهلية والتدخل الخارجي في البلد الذي رفضه الصدر وأعلن لأجله الاضراب عن الطعام. هنا يصح السؤال، لو أن الإمام الصدر لم يغيّب، هل كانت الحرب في لبنان استمرت؟ وهل كانت الطائفية والمذهبية استشرت؟ وهل تمّ تهميش الدولة على حساب المصالح الخاصة؟ وهل كانت اللغة السياسية انحدرت إلى هذا الدرك من الإسفاف المعيب؟
في العام 1971 قال الإمام الصدر “نحن في لبنان، في هذه الواحة النموذجية، في هذه القطعة التي تمثل بيت الأسرة البشرية، ومن خلال تجاربنا التي يتجاوز عمرها عمر الحضارات القائمة بأجمعها، ومن خلال وضعنا الخاص، نتمكن بكل سهولة أن نعبر عن هذه الرسالة الإلهية السامية”، وهو أكد في مقام آخر “أن الشيعة متمسكون بوطنهم لبنان، بكل قواهم وإمكانياتهم، وهم يعتبرون أن استقلال لبنان وسيادته وأمن أراضيه أمر يعنيهم بصورة خاصة وأنه بدون هذه الاعتبارات الثلاثة ليس لهم أية كرامة”.
كان الإمام المغيّب رجل وحدة بكل تجلياتها الإنسانية والدينية والوطنية.. عمل من اجل وحدة وطنية إسلامية ـ مسيحية، ومن اجل وحدة دينية إسلامية ـ إسلامية، وكان يعتبر الوحدتين معا وجهين لرسالة واحدة. هي رسالة لبنان إلى نفسه، وإلى محيطه العــربي وإلى العــالم كله. وهو المؤمن إيمانا عميقا بأن “الإنسانية تعيش بوجود واحد، يتفاعل بمختلف أجزائه بعضها مع بعض”، وبأن الله “خلق البشرية كلوحة فنية ذات ألوان مختلفة، يزيد في جمالها اختلاف الصفات والألوان مما يمهد لها سبل التكامل”.
لقد وضع الإمام الصدر في عام 1969 توصيفا لمعنى الوحدة الوطنية يكاد يكون أكثر ما يحتاجه اللبنانيون اليوم، وذلك عندما قال: “إن الوحدة الوطنية لها معنى أعمق من توحيد المصالح أو واجب احترام الميثاق الوطني والأيمان بالعيش المشترك، الوحدة الوطنية في الحقيقة هي وحدة الأفكار والقلوب، إنها وحدة الأهداف ووحدة كل المواطنين في الأهداف والمعايير العامة لوجود الإنسان. هذه الوحدة هي وجود شعب والتأكد من استمرار الوطن”.
تغييب الإمام الصدر جريمة، وتغييب رؤياه وأدبياته الدينية والوطنية جريمة أيضاً، والاحتفاء به وبفكره وفلسفته ووطنيته مساحة تلاق وتجديد، من اجل ذلك فإن الوفاء له يتطلب مواصلة السير على الطريق التي سار عليها بما تتطلبه من تخل عن العصبيات والأنانيات الطائفية والمذهبية، ومن ارتفاع إلى مستلزمات الوحدة الوطنية، ومن ولاء للدولة الواحدة الحاضنة والجامعة بدستورها وقوانينها ومؤسساتها.

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى