في مستشفى “اوتيل ديو”… هكذا سُحِب من براثن الموت

في قسم طوارئ مستشفى أوتيل ديو دي فرانس، يخيَّل للناظر أنّ جميع العاملين في المستشفى من أطباء ومُسعفين من كلّ الإختصاصات، قد هبطوا من الطوابق العليا لنجدة المريض الممدَّد على السرير النقَّال، وينفّذون بدقَّة وسرعة البرق تعليمات البروفسور أنطوان سركيس الذي أشار بضرورة نقله الى قسم التمييل. كلّ ما يعلمون به في هذه اللحظة أنّ عليهم إنقاذ مريض يأبى قلبه مواصلة الخفقان، ويُملي عليهم الواجب الإنساني والطبي، إعادة النبض إليه من جديد مهما كلّف ذلك من وقت وجهود جبّارة.بعدما أنقذ الاختصاصي بأمراض القلب والشرايين في مستشفى أوتيل ديو دو فرانس، البروفسور أنطوان سركيس حياة المريض، طلب مني أن أسبقه الى عيادته التي تقع في الجهة المقابلة لمستشفى أوتيل ديو دي فرانس، ريثما يقوم بجولته المعتادة على مرضاه. حين وصل بادرني قائلاً: «لا نعرف تاريخ هذا المريض الطبي، ولا نعلم ما إذا كان يعاني من الكوليسترول أو يشكو من ارتفاع ضغط الدم أو يدخِّن السجائر».

واستطرد قائلاً إنّ المريض كان يشكو من تشنّج في ذراعيه فأجرى تخطيطاً للقلب ECG وكان طبيعياً. إلّا أنه شعر بعد مرور نصف ساعة بوجع شديد في الصدر، فنُقل سريعاً الى قسم الطوارئ في مستشفى أوتيل ديو، الذي يقع على بعد خطوات من مسكنه.

وفي الطوارئ تبيّن في التخطيط، وفقاً لبروفسور سركيس، أنه يتعرّض لذبحة قلبية حادّة ترافقت مع ألم وحالة تعب هائلين وهبوط تدريجي في ضغط الدم، حتى غدا لونه شديد الإصفرار بل ومائلاً الى الأبيض، والعرق الغزير يتصبّب من كلّ أنحاء جسمه، ورغم ذلك ما يزال واعياً.

نتيجة التخطيط الخادعة

لفت البروفسور سركيس الى أنّ التخطيط الذي أُجري قبل نصف ساعة، كان طبيعياً لأنه كان خارج نوبة الألم الصدري الذي ألمّ به. والأمور هذه مزعجة لأنها تكون خادعة ومن أجل هذا السبب تتطلّب أوجاع الصدر والذبحة الصدرية أكثر من تخطيط واحد، لأنّ الوجع ممكن أن يختفي ويعود ولا يثبت على حال.

وإذا أجرينا التخطيط بين نوبتي وجع، هناك احتمال كبير أن يظهر كلّ شيء على خير ما يُرام. لذا يجب إخضاع المريض للتخطيط أثناء نوبة الألم وإجراء فحوصات الدم ومعرفة مستوى أنزيمات القلب ولا سيما معدّل التروبونين.

فحص أنزيمات القلب

تجدر الإشارة الى أنّ أنزيمات القلب هي كناية عن بروتينات يتم إفرازها في الدورة الدموية، بكميات كبيرة من نسيج عضلة القلب جراء الاحتشاء. وانزيمات القلب، مهمة لتشخيص حالة الاحتشاء لدى كلّ مريض يعاني من آلام في الصدر. ويمكن رصد ارتفاع مستوى الانزيمات المختلفة وهبوطها خلال بضع ساعات.

أما «تروبونين ت وتروبونين إي» فهما بروتينان لهما تسلسل أحماض أمينية مميَّز وحصري لعضلة القلب وهذان البروتينان موجودان عند الاشخاص الأصحّاء في الدم بنسبة ضئيلة جداً، ويرتفع تركيزهما بعد احتشاء عضلة القلب.

ويبقى مستواهما في الدم مرتفعاً لمدة سبعة الى عشرة أيام بعد حصول الإحتشاء. تكمن أهميّتهما كذلك في أنهما يتيحان تشخيص الإحتشاء في عضلة القلب لدى المرضى الذين وصلوا الى المستشفى بعد أكثر من 24 ساعة من حصول الإحتشاء.

لذا في حال وجدنا انها مرتفعة، يتابع بروفسور سركيس، حتى بدرجات ضئيلة، نعلم أنّ هناك «جرحة» تتحضّر. لذا يجب إبقاء المريض في الطوارئ لمراقبته ومن ثمّ إدخاله الى المستشفى لمعالجته، وتوضيح العوامل المسبِّبة لأمراض القلب وما إذا كان يدخّن أو لا أو يعاني من ارتفاع ضغط الدم والكوليسترول الخ.

وفي حال، كان فحص الأنزيم طبيعياً، يجب إعادته بعد ثلاث أو أربع ساعات ويمكن بعدها إرسال المريض الى المنزل مع توصية بمراجعة طبيب القلب للمتابعة والإطمئنان.

بالنسبة لهذا المريض، يوضح بروفسور سركيس، فلقد وصل الى الطوارئ «عامل» ذبحة كاملة ويشكو من آلام مبرحة في الصدر. وخلال الذبحة أجرينا له التخطيط، فأعطانا علامات واضحة أنها ذبحة قلبية. ولقد رأينا كيف كان يتعرّق فعلَّقنا له المصل وأعطيناه أدوية مضادة للتخثّر.

الذبحة القلبية

أوضح بروفسور سركيس قائلاً: «تنجم الذبحة القلبية Infarctus du myocarde من انسداد فجائي وكامل بشريان من شرايين القلب بسبب تخثّر الدم. وهناك طريقتان لفتحه أما عبر الأدوية المسيِّلة للجلطة أو من خلال القسطرة فنفتح الشريان بالبالون ونضع الريسور.

وتجدر الإشارة الى أنّ لبنان، هو من أكثر الدول في العالم توزّعاً للمراكز الطبّية وأنّ المريض الذي يتواجد على بعد نصف ساعة أو ساعة من أحد المراكز المتوافرة في الشمال والجنوب وبيروت والبقاع وجبل لبنان، يُمكن إنقاذ حياته.

آثرنا إجراء القسطرة للمريض علماً أنّ بعد مرور أقل من 90 دقيقة على حدوث الذبحة ومعاناته من الأوجاع، باتت لديه حظوظ كبيرة للنجاة ومن ثمّ للعيش الطبيعي».

عملية الإنقاذ

شرح البرفسور سركيس عملية الإنقاذ قائلاً: «بعدما توقف قلب المريض في الطوارئ إثر اضطراب بكهرباء القلب fibrillation ventriculaire أجرينا له صدمة كهربائية فعاد قلبه لينبض من جديد. وأثناء نقله الى غرفة التمييل وإخضاعه للقسطرة عاد قلبه وتوقف بالـ«كولوار» واضطررنا لإدخاله الى غرفة الإنعاش لكي نجري له صدمة كهربائية أخرى بعيداً عن عيون الزوار.

وكان علينا أن نُكمل الصدمات الكهربائية أثناء التوجّه الى غرفة التمييل لأنه يجب إنقاذ حياته، لذا أعطيتُ تعليماتي بضرورة إخضاعه للصدمات الكهربائية كلما توقف قلبه عن النبض، حتى يتسنّى لنا الوصول الى غرفة التمييل وهو حيّ.

رافقني أطباء البنج والإنعاش وأكثر من 20 مساعداً من كلّ الاختصاصات. كان هناك مَن يدلّك قلب المريض ومَن يُجري له الصدمات الكهربائية حتى أوصلناه الى غرفة التمييل فوضعناه على التنفُّس الاصطناعي. توقف قلبه 15 مرة قابلتها 15 صدمة كهربائية بالإضافة الى الأدوية الفعّالة التي كنا نعطيه إياها ثمّ نقلناه الى طاولة التمييل وحدَّدنا أيّ شريان «مسكَّر» وفتحناه بالبالون ووضعنا الريسور فتوقفت الاضطرابات الكهربائية علماً أننا حين أدخلنا البالون اضطررنا أن نجري له أربع صدمات كهربائية.

وفتحنا الشريان المسؤول عن الذبحة وفي الوقت نفسه ضبطنا ضغطه لأنه كان منخفضاً وعاد تخطيط القلب طبيعياً. وتمّ تنويم المريض اصطناعياً. ولم يتعرَّض الى أيّ شق، بل «شكّة» صغيرة في يده فقط».

وعن سؤال: هل سيترك توقف قلبه 15 مرة عن الخفقان تبعات سلبية على المريض؟ أجاب البروفسور قائلاً:

«بما أنّنا اشتغلنا بسرعة لا أظن أنّ هناك تبعات سلبية. وإجمالاً الدماغ يتضرّر من عدم وصول الدم اليه بعد مرور 3 دقائق.

ونحن قد بذلنا جهدنا لكي لا يتوقف ضخّ الدم الى الدماغ لأكثر من لحظات أي أقل من دقيقة، بيد أنّ تكرار الصدمات الكهربائية، يمكن أن يترك اثراً سلبياً لكننا سنراقبه واليوم مساءً سنعرف».

• هل سيعود إنساناً طبيعياً؟

– انشاءالله سيعود إنساناً طبيعياً، ونستطيع أن نصف ما حصل معه بالعاصفة الكهربائية الهوجاء التي تكرّرت أكثر من 15 مرة ولو حدث ذلك معه في المنزل لكان فارق الحياة حتماً. ولأنّ ما حدث معه كان تحت إشراف فريق طبّي مدرَّب، سُحب من الموت المحتم وغالبية الظن أنه سيحيا حياة من دون رواسب ومن دون آثار سلبية.

يلعب الفريق الطبي المساند دوراً اساسياً، لأنني فيما كنت منكباً على فتح الشريان كنت مطمئنَ البال الى أنّ الفريق المؤلّف من أطباء أوكسيجين وأطباء بنج «نيَّموه» و«ريَّحوه» وأطباء عدَّلوا ضغطه لأنه كان منخفضاً، كان ما بين الـ 7-6 ولو لم يكن يساندني الفريق الطبي لما استطعنا إنقاذه.

أثناء فتح الشريان، كنتُ أقول لأعضاء الفريق «ضغطو واطي» فيسارعون الى إعطائه الدواء لرفعه. هم اهتموا بمسألة الإنعاش وأنا انكببت على فتح الشريان ووضع الريسور. وهنا تكمن أهمية العمل كفريق متكامل قادر على سحب المريض من براثن الموت».

في المساء، وبعد الاتصال بالبروفسور أنطوان، أكّد لنا أنّ المريض قد استيقظ ولم تترك الذبحة القلبية أيّ تبعات سلبية عليه.

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى