في مسقط رأس كونفوشيوس .. رحلة عمرها 2500 عام بقلم الاعلامية داليا قانصو

يظلّل مدينة تشيوفو وقارٌ جميل. هي تشبه القرية الكبيرة، بمنازلها وفنادقها الخجولة، التي لا تتباهى بعلو الحداثة التي تطبع مباني مدينة جنان، عاصمة مقاطعة تشاندونغ. في الليل والنهار، تشتم رائحة البخور الذي يشتعل تكريماً للمقيم الدائم، «المعلم الكبير»، الذي تحول مسقط رأسه إلى مزار تنشط فيه سياحة الدين والروح، ولا يزال يتوافد إليه الشرق آسيويون من كل حدب وصوب، ليركنوا إلى حكمته وبركته، كملاذٍ أخير.
ساعتان بالقطار السريع من بكين إلى تشيوفو، مسقط رأس كونفوشيوس، «نبي» الصين وفيلسوفها، تنقلك إلى عالمٍ آخر، إلى هدوءٍ ملحوظ يتناقض مع صخب العاصمة وضجيجها، رغم انشغال المدينة بالاستفادة قدر المستطاع من الزائرين اليوميين، من خلال وفرة المحلات التجارية وأسواق الحرف والتذكارات التي تحيط بمعبد كونفوشيوس ومنزل عائلته، ومقابرهم التي تضم مدفنه.
رغم ذلك، تنام تشيوفو باكراً كل مساء، بانتظار غدٍ آخر، ستصحو فيه لتعج بضيوف المنازل «المقدسة»، التي لم يتوقف الحج إليها منذ أن بدأ ذلك العالمُ يعترف بقيمة «معلمٍ» خرج من رحمه منذ ما قبل 2500 عام. الناس تعود دائماً، في آخر المطاف، إلى من يشكل نقيضاً للسلطة، حتى ولو عمل في كنفها، وكونفوشيوس لم يكن معلماً فقط، بل «متعلماً دائماً»، نادى بتثقيف الذات وصقلها للوصول إلى الكمال في أعلى الهرم، ولم يشغله سوى بناء مجتمع الفضيلة، ولو تودد للحاكم، لبلوغه.
تفتخر تشيوفو بأنها من سلالة «كونغ»، نسبةً إلى كونغ زي، أو كونفوشيوس، أو زونغ ني، أو أسمائه الستة الباقية التي عُرف بها. في إحدى باحات المعبد الكثيرة، صخرةٌ كبيرة استقدمت من البحر، فيها الكثير من الثقوب، التي تحمل اسم «كونغ» باللغة الصينية. لهذا السبب، يتأكد المتحدرون من عائلة هذا الحكيم، من أنهم باقون لأجيال مقبلة، ليشكّلوا أطول شجرة عائلةٍ في التاريخ، بحسب المؤلفات والأرقام و «غينيس» (أكثر من 80 جيلاً). وربما لو وافق الكثيرون كما اقترِح يوماً، لكانت فحوص الـ «دي أن إيه» قد أخرجت آلافاً إضافيين من العائلة العريقة، موزعين اليوم في أكثر من بلد في العالم.
يعرف عن كونفوشيوس بأنه «أستاذ الصين الأول». ولد في عهد الربيع والخريف، في العام 551 قبل الميلاد، وعاش 71 عاماً بدأها بإدارة الاسطبلات الحكومية لدولة «لو»، وحافظاً لكتب صوامعها. ولكن تمكنه من الفنون الست ـ الطقوس والموسيقى والرماية والخط والحساب وقيادة العربات ـ جعله يكسب مهنةً لامعةً في التعليم كانت حكراً على النبلاء الإقطاعيين، واستمر بها رسمياً لبعض الوقت، وشعبياً، حتى مماته.
ولأنه المعلم، فإنك لن تخرج من معبده خالي الوفاض من الدروس. تسع بوابات تحملك إلى أكثر من معبد، وإلى المعبد الأخير والأكبر. أمام كل واحدة، في المجمع الذي يضاهي جماله «المدينة المحرّمة» في بكين، عليك أن تنحني لتجاوز عتبةٍ طويلة، لتبعدك المشقة عن استسهال الأمور.
وإذا كانت «المدينة المحرّمة» قد بناها الإمبراطور وحرّمها على الناس العاديين، فإن معبد كونفوشيوس بناه أيضاً الحكام المتعاقبون بعد وفاته تكريماً له، فهو لم يجافهم، بل كان مستشارهم ووزير عدلهم يوماً. وفي الصرح الكبير، نصبٌ قدمها الأباطرة كهبات، إحداها يصل وزنها إلى 65 طناً وتعود إلى عهد يوان في القرن الثاني عشر بعد الميلاد. على مر تلك العهود، وحتى وقت ليس ببعيد، ظل هناك من يحمل لقب «الدوق» في سلالة كونفوشيوس أو من تلامذته، إلى أن تحول إلى منصب «موظف الأضاحي لكونفوشيوس»، وهو منصب سياسي أصبح غير مدفوع.
في المعبد، يقف المؤمنون في صف طويل، بانتظار دورٍ لإشعال البخور. لدى تلك الحضارات، البخور يخدم كل الأغراض. الاحتفالات، وتكريم الاموات، والتقرب إلى الرب، وطلب الرغبات.. أما في داخل المعابد، فقد لا تجد أثاثاً استخدمه كونفوشيوس نفسه، ولكنه وضع في مراحل متعاقبة للتعريف عن طبيعة الحياة ومكوناتها في ذلك الزمن. في الباحات، أشجار معمّرة بدأت تزهر، ربما ترمز إلى طول الحياة.
آمن كونفوشيوس بالتعاقب. لم يحبذ فكرة الديموقراطية. حمل التقاليد الصينية، وحدّثها وفقاً لمفهومه. بساطته وتعقيده في آن، يكمنان في أنه دعا إلى ما علينا فعله ولا نقوم به: تقديس الأسرة، الطيبة، الاستقامة، اللياقة والأدب والحكمة والوفاء والإخلاص، احترام الوالدين والحياة والموت.. ولكن لماذا أحرقت كتبه يوماً، ولماذا حاربته الشيوعية في زمن الثورة الثقافية؟
في معبد تشيوفو، تلونت سطوح المنازل المقدسة بالأصفر، لون الأباطرة. التنين يجب أن يحضر أيضاً. في منزل العائلة التي بناها لها الحكام، دهاليز طويلة تحملك من مكان إلى مكان، يقال إنها ساعدت أيضاً على الهروب في أزمان عدم الاعتراف.
تخرج من الجولة إلى السوق ممتلئاً. عملية تفاوض صعبة لتخفيض سعر تذكار من 50 إلى 20 يوان تعيدك إلى أرض الواقع. تنظر خلفك، فترى دخان البخور لا يزال يتصاعد. هناك، يقضي أناس من ديانة أخرى حاجتهم للتعبد.. وينصرفون. إلى الحقيقة التي لا تجد مكاناً لحكمة كونفوشيوس: «الحياة جداً بسيطة. فلماذا نصر على تعقيدها؟».

 

 

نشر هذا المقال في جريدة السفير بتاريخ 2016-04-02 على الصفحة رقم 12 – الأخيرة

لمشاهدة نص المقالة في جريدة السفير اضغط هنا 

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى