قراءة نقدية في مسرحية أحلام يومية للكاتب يوسف رقة

أحلام يومية بين المكتوب والمنطوق

مشلين بطرس

في زمن المآسي الإنسانية التي سيُخلَّد التاريخ بوحشيتها، أصبح النزوح هو الشغل الشاغل للأغلبية العظمى من البشر الذين كُسرت أجنحتهم، وتقلصت أحلامهم، إذ باتت البشرية لا تستطيع العيش دون الحروب والمتاجرة بأرواح الناس، ومثلما قال برتولت بريخت “لا يمكن لمجتمع أن يتواصل طالما كان منقسماً إلى فصائل متحاربة” فكيف هو الحال بالأمم والشعوب المتناحرة؟؟
تأتي مسرحية “أحلام يومية” للكاتب يوسف رقة في بناء درامي تراجيدي حكائي صيغ على شكل حواري له ثيمته (فكرته) المعينة التي سيؤديها ممثلون أمام الجمهور، تعالج مشكلة هامة علاجاً مفعماً بالعواطف والتخييل، لتؤدي في النهاية إلى إحساس مأساوي رغم انتصار الخير، لنجد أن الممثلين يقولون في آخر العرض: أطفئوا الأنوار …هل تسمعون … لا أريد لأولادي أن يشاهدوا هذه المسرحية.
تبدأ المسرحية بجزء من حبكة تقدمية درامية، إذ يدخل الممثل 1 و2 والممثلة 1 و2 بثياب موحدة وعلى ايقاع الضربات الثلاث للمسرح ….، لتكون نقطة الانطلاق وهي اللحظة التي تفجر فيها القوة المحركة الحدث، كي ينطلق ويتصاعد نحو التأزم بحسب أرسطو.
نيام … نيام … ونيام، ويتراكم الحدث الصاعد، وتبدأ الاكتشافات من خلال الأحلام ويبدأ التمهيد للتنبؤ والتلميح من خلال الممثلة 1 و2، وينشأ التعقيد بتعارض أحلام الزوجين وتعاركها مع بعضها البعض بخلاف الواقع المعيش لحياتهما الذي يتسم بالتفاهم والانسجام.
فالنوم هو المساحة الوحيدة من الموت التي من خلالها يستطيع الإنسان بناء أحلامه، هو البرزخ للعبور إلى ضفة الحياة أو الموت، لنرى أن الممثل يبدأ بفهم معنى وجوده من خلال الدخول بالتجربة الوجودية الفردية الداخلية، وقد عايش الواقع وجدانياً أكثر منه عقلياً، ثم يُبرز اكتشاف المعاني الأساسية في الوجود الإنساني كالعدم والموت …إلخ، فيقوم بتكوين جوهر ومعنى لحياته من خلال الأحلام عن طريق النوم الذي هو الطريقة الوحيدة للنهوض من حالته المزرية.
يخاطب الممثل 1 الممثلة 2 قائلاً: لماذا لا تقدرين أهمية الأحلام في حياة البشر؟؟
ويحكي لها قصة امرأة غالت في التدين والعبادة حتى طمست وجهها نهائياً بحيث لم تترك فتحة العينين، ولم تعد ترى طريقها …. “هي لم تترك نافذة في نقابها كي ترى ما يجري أمامها” وهنا إشارات وأبعاد سيمولوجية تدل على التعصب والتطرف الذي يجعلنا نفقد البوصلة ونضيع طريقنا.
أما العلامات السينوغرافية فقد تعددت وتنوعت، وكان أبرزها تلك العين البشرية التي تظهر في خلفية المسرح، ويتحرك السواد في داخلها بشكل دائري، لنجد أن السيمولوجية البصرية لهذه العلامة تدل على وعي ما يحركنا كالدمى أو يراقبنا ليس في فضاء المسرح وحسب إنما في مسرح حياتنا اليومية.
وتلك الأسلاك الشائكة المزينة بكمية من الأقفال الحديدية لها فضاءات من الدلالات
التي لا حدود لها، فمن يريد عبور “القوس” عليه أن يقفل رأسه جيداً بهذه الأقفال التي تحيلنا إلى باريس حيث جسر المحبة الذي تخلص مؤخراً من أقفاله التي وضِعَت في معابرنا ليس من أجل المحبة، إنما من أجل الخنوع والطاعة، “وهل هناك أجمل من زينة الحديد و النار، التي هي جزء من مساعدة دولة صديقة، إنها هبةٌ دون مقابل”.
وعندما يريد الممثل العبور، يوقفه ثانٍ طالباً منه جواز السفر، ويسأله من أين أنت؟
يجيب الممثل 1: اسم دولتي مكتوب هنا على الجواز ويشير بإصبعه، فيضحك الثاني مقهقهاً على سذاجة الأول قائلاً: “يبدو أنك تعيش مع أهل الكهف … ألا تعلم أننا ألغينا أسماء الدول جميعها؟ فكل دولة أصبحت مرسومة هنا على الخارطة بحسب المذهب. فما هو مذهبك وما مذهب زوجتك؟” وتقع الكارثة وتتصارع الأحلام مع الواقع المرير، ويُدخل الممثل 1 في قفص حديدي، ليُخير في طريقة موته، فإما أن يُقطع رأسه أو يُحرق داخل القفص، أو يُرمى في حفرة عميقة، ويستيقظ الممثل من نومه صارخاً: لا أريد أن أموت … لا أريد أن أموت.
لتبقى أسبقية العرض المسرحي هي الأساس المهم بالنسبة للدراماتوج أو للفن المسرحي، فموليير قال: “لا أنصح بقراءة مسرحياتي إلا إلى الأشخاص الذين يملكون عيوناً قادرة على كشف اللعبة المسرحية أثناء القراءة”
وفي تعبير له عن المسرح التسيسي يقول سعد الله ونوس: “سأحدد بسرعة مفهوم هذا المسرح على أنه حوار بين مساحتين، الأولى هي العرض الذي تقدمه جماعة تريد أن تتواصل مع الجمهور وتحاوره، والثانية هي جمهور الصالة الذي تنعكس فيه كل ظواهر الواقع ومشكلاته …
لذلك ستكون “المسرحية هي المجال المغناطيسي الذي يوحّد بين الإدراك والخيال” حسب تعريف ماكس فريش للمسرحية.
ومنه إن “أحلام يومية” مسرحيةٌ يجب أن تُعرض على خشبة المسرح حتى لا يشاهدها أولاد ممثليها، فنحن لا نريد أن نموت، ولا نريد أن تصبح الأحلام أفيوناً للشعوب، ونعمل على توحيد الدول بخريطة الإنسان.

 

نشرت هذه المقالة في موقع مجلة معارج الفكر الاكتروني

لمشاهدة نص المقالة الاصلية إضغط هنا

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى