مخاطر الهجرة الى الغرب | بقلم محمد مهدي الشيخ قاسم بيضون

بعض مظاهر التعرّب بعد الهجرة
من طلبة العلوم الدينيّة في حوزة الأطهار (ع) التخصّصيّة_قم المقدسة: محمّدمهدي قاسم بيضون
من بحث البكالوريوس: “التعرّب بعد الهجرة، الأدلّة والمظاهر” للعام الدراسي: 1436 – 1437 هـ

تمهيد :
من الموانع التي تعيق وتقف أمام الإنسان في طريق الهداية الإقامة في المحيط والبيئة الكافرة التي تُضعِف مناعة الإنسان المسلم مقابل أهوائه ونفسه الأمّارة بالسوء ويقلّ ويضعف بذلك إسلامه وإيمانه. وهذا يكون عادةً مسبَّباً عن الهجرة إلى بلاد الكفر والابتعاد عن بلاد الإسلام، وبلد الإسلام ليس المراد منه خصوص البلاد التي يكون حاكمها مسلماً أو تكون سلطتها الحاكمة مسلمة بل المراد أعمّ من ذلك فهو يشمل البلاد في دول الكفر والتي يكون سكانها وأكثر المقيمين فيها مسلمين بحيث يصدق عليها عرفاً أنّها من بلاد المسلمين. وقد نهى الشارع المقدّس عنها بل وجعلها من الذنوب والمعاصي الكبيرة التي توعّد عليها بالنار، وقد اصطلح عليها اسم: “التعرّب بعد الهجرة”. ومنشأ هذا الاصطلاح يعود إلى بداية التشريع الإسلامي، حيث كان بعض المسلمين – بعد دخولهم في الإسلام حديثاً في المدينة المنوّرة عند رسول الله ’ – يعودوا ويرجعوا إلى البادية ويقيموا فيها ممّا يؤدّي إلى نقصٍ في دينهم وإسلامهم بل والعودة عن الإسلام – والعياذ بالله – فحرّم الله تعالى هذه العودة عليهم أي العودة من المدينة المنوّرة إلى البادية والسكن مع الأعراب هناك، ويكون “التعرّب” هو العودة عن الإسلام و”الهجرة” هي الهجرة إلى الرسول ’ والدخول في الإسلام، وبقي هذا الحكم في كلّ زمان بهذا الاسم طالما هناك كفر وبلاد كفر، وقد عرّفه الفقهاء في زماننا:

  • (الخروج إلى البلاد التي ينقص فيها الدّين).
  • (الانتقال إلىٰ بلد ينتقص فيه الدين اي يضعف فيه ايمان المسلم بالعقائد الحقّة أو لا يستطيع ان يؤدي فيه ما وجب عليه في الشريعة المقدسة أو يجتنب ما حرم عليه فيها).

عادةً نجد الذين يُولدون في بلاد الإسلام والمسلمين ويترعرعون فيها أكثرَ حظّاً وأوفر نصيباً للإلتزام الديني والهداية من الذين يُولدون ويترعرعون في بلاد الكفر؛ فالوسط الإسلامي يهيّىء الأرضيّة الإيمانيّة ويقوّي المناعة الإيمانيّة ويقوّي الفطرة المخزونة في داخل الإنسان لتكون عوناً له للتقرّب منه تعالى بحسب العادة، فالذي ينشأ ويترعرع في بلده الإسلامي يتشرّب عن وعي ودون وعي أحكام الإسلام وقيمه وتعاليمه، فيَشبُّ متأدِّباً بآداب دينه، سالكاً طرقه مهتدياً بهديه، بخلاف الوسط غير الإسلامي الذي يتطلّب مؤونة زائدة لتأمين جوٍّ مساعدٍ وأرضيّة إيمانيّة تساعد على التقدّم في مسيرة الهداية وتقوّي المناعة الإيمانيّة وهذا يكون غالباً صعباً بل متعسّراً أحياناً كثيرة، وتكون آثاره أكثر وضوحاً في سلوك وآداب وقيم الجيل الثاني الذي هو جيل الأبناء. ولذلك كان للإسلام موقفٌ من الإقامة في بلاد الشرك جسّدته روايات الرسول الأكرم وأهل بيته (عليهم الصلاة السلام) فقد عبّروا (عليهم السلام) عن بلاد الشرك بالغربة إذ يشعر المسلم هناك بالغربة لعدم تمكّنه من ممارسة نشاطه الإسلامي بالشكل المتاح في بلد الإسلام والمسلمين، فقد ورد في صحيحة الحسين بن المختار القلانسي عن الإمام الصَّادِقِ (عليه السلام) :” قَالَ يَقُولُ أَحَدُكُمْ إِنِّي غَرِيبٌ إِنَّمَا الْغَرِيبُ الَّذِي يَكُونُ فِي دَارِ الشِّرْكِ” . ولو تأمّلنا قليلاً لوجدنا أنّ وطن المسلم الحقيقي هو بلاد الإسلام وغيرها يكون دار غربة بالنسبة إليه.

ملخّص :
سيتمّ التعرّض في هذا الموجز إلى بعض مظاهر التعرّب بعد الهجرة التي تنتشر بكلّ وضوح وبشكل قوي في بلاد الغرب وبلاد الكفر، كما توجد أيضاً في بلادنا الإسلاميّة وإن كانت بشكل خفيّ، إلا أنّها في غاية الخطورة حيث تفقد الحياة المعنوية في البيئة المسلمة التي هي أساس القرب والتقرّب الإلهي وأساس الإسلام الحقيقي وغايته في تكامل الإنسان وسيره نحو الله تعالى.

توجد مظاهر كثيرة من مظاهر التعرّب بعد الهجرة قد تخفى على كثيرين ممّن ينوون الابتعاد عن بلاد الإسلام والهجرة عنها، وهي شواهد ملموسة من المقيمين المسلمين في بلاد الغرب، لذا سنتعرّض إلى بعضها وهي:

الابتعاد عن اللغة العربيّة، والابتعاد عن عالم المعنى، واتباع العادات الغربيّة، واتخاذ بلاد الغرب موطناً دائماً ، إضافةً لذلك، فإنّ الوقوع في بعض المحرّمات المتفق على حرمتها كالركون إلى الظالمين والتولية لهم وإن كانت محرّمة حتّى في بلاد المسلمين، إلا أنّها لأهمّيتها ولكونها أكثر عرضةً وظهوراً في بلاد الغرب تمّ إدراجها في مظاهر التعرّب، هذه المظاهر وغيرها بما فيها من خطورة على المسلم وعلى عياله هي علائم وكواشف للمسلم لأخذ الحيطة والحذر منها قبل السفر والهجرة إلى بلاد الغرب والوقوع فيها، وفي حال وقوعه فيها غفلةً أو جهلاً يجب عليه التدارك وإصلاح الأمور قبل تفاقمها وعدم التمكّن من التدارك. وخطورتها إن لم تكن ظاهرة في بداية الأمر، لكن تكون في الأجيال اللاحقة ظاهرة وأكثر وضوحاً وأصعب تداركاً، أعاننا الله تعالى وإياكم لما فيه الصلاح والهداية.

1 – الابتعاد عن اللغة العربيّة :
من الواضح أنّ اللغة العربيّة أعظم لغةٍ بقوّتها ومتانتها وبلاغتها وبكل أبعادها؛ لذلك شاءت العناية الإلهيّة أن تكون هذه اللغة لغة كتاب الله عزّوجلّ. وقد حثّ الشارع الحنيف على تعلّم القرآن الكريم وتعليّمه فقد ورد عن الإمام الصادق (عليه السلام)  أنّه قَالَ : “… عليّكُمْ بِالْقُرْآنِ ، فَتَعَلَّمُوهُ … الحديث” ، وفي رواية أخرى قال (عليه السلام) : ” يَنْبَغِي لِلْمُؤْمِنِ أَنْ لايَمُوتَ حَتّى يَتَعَلَّمَ الْقُرْآنَ ، أَوْ يَكُونَ فِي تَعليّمِهِ “. كذلك الحال، فقد حثّ على تعلّم اللغة العربيّة لفهم كلامه تعالى ولفهم الروايات والأخبار ولو بالحد الأدنى، فقد ورد عن الإمام الصادق (عليه السلام) قال: ” تعلّموا العربيّة فإنّها كلام الله الذي تكلّم به خلقه، ونظّفوا الماضغين، وبلّغوا بالخواتيم”.
والكلام عن الابتعاد عن اللغة العربيّة في بلاد الغرب وبلاد المشركين هو بالأساس يخصّ الأقوام العربيّة الذين منّ الله تعالى عليهم وأوجدهم في عوائل ومجتمعات تتكلّم باللغة العربيّة لغة القرآن الكريم والحديث الشريف. فالترجمة من العربيّة في كثير منها تفقد المعنى الأساس المراد من الشارع وإن أبقت بعض معناه بحسب قوة اللغة المترجم إليها.
المشكلة في بلاد الغرب عادةً – بحسب الاستقراء – يبعد الإنسان المغترب عن لغته ويحاول اتقان لغة قوم بلد إقامته، لأنّ ذلك وسيلة ضرورية للاستمرار والاستقرار ودفع الشر عن نفسه، كما هو مشهور على الألسن: (مَنْ تعلّم لغة قوم أَمِنَ شرّهم). بناءً على ذلك، من الطبيعي أن نشهد تقليل الاهتمام باللغة العربيّة في تلك البلدان، إضافةً إلى ذلك، توجد عوامل أخرى تساعد على ذلك في بعض البلاد وهي: معاملة الناطق بغير لغتهم بالغريب والإستغلال ويصفونه بالدخيل ويصطلحون عليه في لغتهم بـالـ (Boater)، وعدم استعمال اللغة العربية في الدعايات والإعلانات والمدارس ووسائل الإعلام كافّة. لذا ترى في تلك البلاد يبلغ الطفل سنّ الخامسة ولغته الأمّ هي اللغة الأجنبيّة واللغة الثانية هي العربيّة بدل أن يكون العكس. ثمّ إذا عمّقنا أكثر ونظرنا إلى الجيل اللاحق وبعده فلن يبقى للغة العربيّة أي اعتبار في عائلاتنا الإسلاميّة العربيّة، ولذلك على المقيمين هناك تدارك هذا الأمر وحفظ اللغة العربيّة وحفظها في عائلاتهم قبل فوات الأوان. ويا ليت الأمر يقتصر على اللغة فقط بل هذا يتماشى عادةً مع تقليد العادات والتقاليد لتلك المجتمعات – وهي النقطة اللاحقة في محلّ الكلام – وهذا ظاهر وواضح في الكثير من تلك البلاد.
ويمكن ملاحظة ذلك للأسف الشديد حتّى في بلداننا الإسلاميّة التي لا تركّز على تقوية اللغة العربيّة لدى أبنائها، مع كون اللغة العربية هي اللغة الأمّ ولغة المجتمع ، فلا يكون قلّة الاهتمام أمراً خطيراً ذا سلبيّات عديدة كما هو الحال في بلاد الغرب.
ينجرّ إلى ذلك ويتبع اللغة طريقة الكلام والتعبير والتفكير، فتعلّم اللغة واتقانها في نفس البلد المقيم فيه لا يكون اتقاناً خالصاً لخصوص المفردات وحسب بل يشمل عبارات المجتمع ولغة الشوارع ولغة وسائل الإعلام بجميلها وقبيحها، فتشهد هناك من لوازم اتقان اللغة تعلّم بعض مصطلحات الشوارع، وليتها تقتصر على ذلك، بل تشهد تغيّراً في طريقة التفكير والحوار تبعاً للغة أيضاً، فترى الكثير من النقاشات والإجابات الدينيّة تناقش بعيداً عن القرآن والسنّة ومقصورة على العقل العامّي السائد في ذلك المجتمع وعلى أساس المادّة والمحسوسات. فيناقشك على أساس عقله وهواه نقاشاً جدليّاً لا جدوى ولا طائل منه فيكون من مصاديق قوله تعالى: { أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَن يَهْدِيهِ مِن بَعْدِ اللَّهِ أَفَلا تَذَكَّرُونَ } وهذا من أخطر مظاهر التعرّب لأنّه يؤول في كثير من الأحيان إلى ترك الإسلام والدخول في أديان أخرى أو البقاء بلا دين، وهو الارتداد والعياذ بالله، ولا تعرّب أشدّ من هذا.

2- اتباع التقاليد والعادات الغربيّة:
وهي من أخطر مظاهر التعرّب بعد الهجرة التي سرت – للأسف – إلى مجتمعاتنا الإسلاميّة وبلادنا العربيّة، وقد نهى الشارع عن اتباع تقاليد المجتمعات غير الإسلاميّة، ويجدر الإشارة إلى أنّ الشارع المقدّس قد حرّم بعض الأمور لكونها من مظاهر تقاليد أهل الكفر، كما في حرمة لباس الشهرة وحرمة لبس القلنسوة في الطواف وغيرها.
نعم حثّ الشارع على مراعاة قوانين البلد الذي يقيم فيه المسلم. وهو يعكس صورة إيجابيّة هامّة للإسلام والمسلمين في بلاد الغرب ممّا يكون مدعاةً لأبناء الغرب لقبول الإسلام والتعرّف عليه ولا أقل الدفاع عنه ضد هجمات تشويه صورة الإسلام في كلّ عصر وفي كلّ مكان، ويكون المسلمون بذلك من مصاديق رواية هِشَامٍ الْكِنْدِيِّ ، قَالَ :” سَمِعْتُ أَبَا عبدالله (عليه السلام) يَقُولُ : إِيَّاكُمْ أَنْ تَعْمَلُوا عَمَلاً يُعَيِّرُونَّا بِه؛ فَإِنَّ وَلَدَ السَّوْءِ يُعَيَّرُ وَالِدُهُ بِعَمَلِهِ ، كُونُوا لِمَنِ انْقَطَعْتُمْ إِلَيْهِ زَيْناً ، وَلا تَكُونُوا عَلَيْهِ شَيْناً … الحديث”
في المقابل نهى الشارع عن اتباع تقاليد تلك البلاد بحيث يكون طمساً لتقاليد الإسلام والمسلمين، والكلام ليس في بعض التقاليد التي لا تتعارض مع الإسلام كوضع الورود على القبور مثلاً، لكن محلّ الكلام هو في التقاليد التي تنافي الشرع – وهي الأكثر – وتصير عادة متأصّلة في المجتمع الإسلامي وكأنّها من العادات الإسلاميّة كما هو الحال في عادة عيد الحبّ، وعادة الاختلاط في الأعراس والمناسبات بما يخالف الشرع، وعادة العلاقة بين الجنسين بعنوان الصداقة والأخوّة (Boyfriend and Girlfriend) من دون أي عقد شرعي وغيرها… مضافاً إلى ما يعتاده الشباب من لباس يكون لباس الشهرة المحرّم وما تعتاده الشابات من لباس وحجاب موافق للموضة ملائم للباس أهل الغرب.
فترى الأجيال الصاعدة تلتزم بهذه العادات وترسخ في أذهانهم ممّا يشكّل حاجزاً وحجاباً عن قبول العادات الإسلاميّة، وهذا ممّا لا شكّ فيه عود إلى الجهل مقابل الإيمان والدين وتراجع في التديّن والمعرفة الدينيّة. رغم أنّ هذا الأمر هو محلّ ابتلاء في مجتمعاتنا لكن من الواضح أنّ المحيط الإسلامي يبقى في حالة مواجهة لهذه العادات فلا تكون مؤثرة على المجتمع الإسلامي، بخلاف ما هو الحال في بلاد الغرب فالمحيط هناك يساعد على سيطرة هذه العادات ونموّها، ويكون خطرها هناك مستحكماً.
ثمّ إذا نظرنا إلى واقع بلادنا الإسلاميّة نجد أنّ الذين يسافرون ليقيموا في بعض البلاد المتعصّبة ضد مذهب الحق مذهب أهل البيت (عليهم السلام) كبلاد الحجاز، يضطرّ المقيمون هناك إلى عدم ممارسة نشاطاتهم الدينية الولائيّة كإحياء عاشوراء وإحياء مناسبات أهل البيت (عليهم السلام)، خوفاً من السلطة ويلجأ البعض إلى ممارسة أحكامهم وتقاليدهم كصلاة التراويح مثلاً أو الصلاة والإفطار على أوقاتهم، وهو وإن كان جائزاً إلى الحدّ الذي تُجوِّزه التقيّة، إلا أنّه قد يصدق عليه التعرّب – على القول بحرمة السفر والإقامة في البلاد التي يصعب فيها إقامة شعائر الإيمان فضلاً عن شعائر الإسلام – بلحاظ عدم التمكّن من ممارسة النشاطات الإسلاميّة التي كانوا يتمكّنون من ممارستها في بلدانهم الإسلاميّة غير المتعصّبة ضدّ المذهب الحق وهي شعائر الإيمان، وهذا وإن لم يظهر بوضوح في بداية الأمر إلا أنّه يظهر بوضوح في الأجيال اللاحقة، حيث يصعب تربيتهم على التربية الإيمانيّة التي أنعم الله تعالى عليهم بها، فيلزم التدارك.

3- الابتعاد عن عالم المعنى:
لو استقرأنا وحقّقنا في أسباب هجرة الناس إلى تلك البلاد يلاد الغرب سنرى أنّ الأعمّ الأغلب قد سافروا اختياراً أو قهراً لتأمين المعيشة أو للعيش بالأمان، فهو بشكل عام طمع في إعمار الدنيا. قلّما تجد أحداً يذهب للإقامة هناك بقصد إصلاح المجتمع وإعمار الأخرة إلا المبلّغين والذين تكون مدّة إقامتهم محدودة عادةً. ثمّ أضف إلى ذلك أنّ بلاد الغرب والمشركين أساساً بنيت على هذا الأساس، ووضعت قوانينها وأنظمتها على أساس تيسير أمر الدنيا وإعمارها ولا نظر لهم أصلاً إلى عالم الآخرة وما وراء المادّة. وإذا كانت الأسباب من هذا القبيل فماذا نتوقّع من نتائج؟!
فإعمار الدنيا عادةً هو الأساس في تلك البلاد إلا من رحم الله تعالى، وكلّ ما عدا ذلك يدور مدارها، فإذا اتفق عملٌ ما معها قُبِل وإلاّ فلا، مع أنّه ورد عندنا العديد من الروايات في ذمّ الدنيا وفي جعلها الهدف والأساس لأنّ حبّها والتعلّق فيها رأس كلّ خطيئة فقد ورد عن الإمام الصادق (عليه السلام) : ” رأس كلّ خطيئة حبّ الدنيا ” .وهذا ممّا لا شكّ فيه من أقوى العوامل المساعدة على التعرّب بعد الهجرة بل على طمس هدف الشريعة الإسلاميّة التي جعلت الدنيا دار ممرّ دار تزوّدٍ وعملٍ لإعمار الآخرة والآخرة هي دار المقرّ وهي الحياة، فقد قال تعالى: { وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ }.
عندما تجالس المقيمين هناك خاصّة الذين قضوا مدّة من الزمن في تلك البلاد، تجدّ جلّ حديثهم عن مقدار العمل ومقدار الدخل وكيفيّة تحسينه وتقويته ومقياس الفلاح هو كثرة العمل وكثرة المال، مع العلم أنّه يمكن بكل سهولة للمقيم هناك الإكتفاء بمقدار من المعيشة ويكون فوق معدّل الفقر أي غنيّ شرعاً ليبقى لديه مجالٌ لآخرته، ثمّ إذا فتح موضوع ديني أو أخروي في جلسة ما يقل فيها المستمعون ويعتبرونه أمراً مستحبّاً لا يتوقّف أمر معاشهم عليه. فيزداد الجاهل بأحكام دينه جهلاً ولا يزداد العالم ببعض أحكامه في بلده قبل سفره علماً إلا إذا خالف هواه وجعل من وقته نصيباً لتعلّم أحكام دينه. فجيل الآباء الذي ساعد وجود الحالة المعنوية في بلدهم على تعلّم أحكام دينهم والاهتمام بها يُخاف عليهم من صدق التعرّب عليهم فيما لو فقدوا هذا العلم بالأحكام أو نقص ذلك منهم، لكن الجيل الصاعد المولود هناك البعيد عن هذه الحالات المعنوية المساعدة سيكون تعلّمه للأحكام الدينية أمراً صعباً ويحتاج منه جهداً أكبر أو سيكون في بحر الجهل بالدين وبأحكامه وليس ذلك إلا التعرّب، أعاذنا الله تعالى منه.
وهذا المظهر من التعرّب منتشر في بلاد الغرب بكل وضوح، لكن بسبب التمدّن والتطوّر انتقلت هذه المشاكل إلى بلداننا الإسلاميّة، فمن المؤسف أن تجد في بلادنا من لا يكون همّه إلا العمل وجمع المال والدنيا، فلا يجعلون نصيباً من وقتهم في سبيل تقوبة الجانب المعنوي، فتجده يستيقظ على نفسه وقد كبر سنّه وازداد الأمر صعوبة وتعقيداً، ولم يربِّ نفسه وعياله على الاهتمام بالعالم الآخر.
نعم يمكن للإنسان الجمع بين تحصيل المعيشة والسعي في سبيل الآخرة وهذا أمرٌ محمود، بل هو المطلوب. لكن كما لمسنا في البلاد البعيدة عن الإسلام وعند الخوض في الدنيا يزداد الأمر صعوبةً وتعقيداً عن ما إذا كان ذلك في البلاد الإسلامية التي فيها عوامل مساعدة كثيرة لإبقاء الحالة المعنوية في كافة جوانب الحياة.

4- اتّخاذ بلاد الغرب موطناً دائماً :
بلاد الغرب عادةً تتمتّع بإمكانات معيشية وحياتيّة أقوى وأكثر من بلادنا، وإن وجدت بلداً من بلادنا الإسلاميّة أنعم الله تعالى عليها بإمكانات قويّة ومقتدرة تجد فيها في المقابل نقصاً في جانب التوزيع العادل ويشعر أهلها بالظلم، ويشعرون بعدم الحريّة المدّعاة في بلاد الغرب. فمن الطبيعي أن يستأنس ويركن المغترب هناك وينوي بالتالي الإقامة الدائمة والتوطّن الدائم لتوفّر كلّ أساليب الراحة والعيش الرغيد ولسهولة الحصول على الأوراق القانونيّة بل نيل التابعيّة لتلك البلد عادةً. لكن سلبيات هذه الراحة التي شعر بها واطمئن وسكن إليها سيدفع ثمنها هو أوّلاً وبالذات وستدفعه عائلته والأجيال بعده أثماناً باهضة. ولا يستغرب المرء هناك إذا صادف عائلة مؤمنة وأحد أبنائها قد تنصّر وارتدّ! ولا يستغرب أيضاً إذا وجد شخصاً أجنبيّاً تراه مواطناً أصليّاً لم يبقَ في ذاكرته إلا اسم بلدته الإسلاميّة وتحيّة الإسلام، تتكلّم معه فيقول لك أذكر أنّ جدّي كان من البلدة الفلانيّة وكان مسلماً، لكن هو وعائلته لا يعرفون شيئاً من الإسلام ولا يعرفون غير اسم تلك البلاد، والسبب الرئيس هو التوطّن الدائم وعدم العودة إلى البلاد الإسلامية حيناً بعد حين ولو بعنوان زيارة الأقارب؛ فإنّ هذه الزيارة ولو كانت قصيرة لكنّها تجدّد الإرتباط والعهد بالبلد الأم البلد الإسلامي وتجعل احتمال العودة إلى ديار الإسلام لأبناء هذه العائلة موجوداً.
نعم هذا التوطّن قد يكون أحياناً قهريّاً، فبعض المغتربين لم يكن لهم حيلة إلا البقاء هناك بسبب تركهم بلادهم الإسلاميّة قهراً لسوء الأوضاع الأمنيّة والظلم والطغيان الممارس عليهم من قبل السلاطين الجائرة، وما فتئوا أن وجدوا أنفسهم وقد تعلّقت أولادهم بتلك البلاد، وبعضهم قد ضاقت بهم سبل الحياة بعد إقامتهم هناك ولم يستطيعوا العودة والزيارة، فهؤلاء رغم أنّ الأمر كان خارجاً عن أيديهم إلاّ أنّه سيجدون نتائجه سلبيّة وعكسيّة في الأجيال القادمة أو عليهم أن يبذلوا قصارى جهدهم وبأي طريقة ووسيلة لدفع هذا الخطر ولإبقاء الأولاد على صلة وارتباط ببلاد الإسلام قبل فوات الأوان ودخولهم في بحر التعرّب.
ومن الواقع الأليم في تلك البلاد، وبغض النظر عن الإمكانات الحياتية المتاحة والمشجّعة على البقاء، توفّرُ الحريّات أو التي يدّعون أنّها حرّيّة وهي بالواقع مخالفة لحدّ الشرع الإسلامي، كإعطاء الحريّة للأولاد البالغين سن الثامنة عشر من العمر ذكوراً وإناثاً مقابل آبائهم، وإعطاء الحرّية للمرأة على زوجها، وحرّية اقتناء السلاح مع ترخيص وحرّيّة مصاحبة الرجال للنساء والنساء للرجال ولو من دون وثيقة زواج، وحرّيّة مراودة النوادي الليليّة وأماكن تناول الخمر للبالغين سن الحادية والعشرين من العمر وغير ذلك من الحرّيّات المزعومة. والمؤلم في ذلك مخالفتها للشرع الإسلامي، فعلى سبيل المثال ، يمكن للزوجة الإتصال بمركز الشرطة والشكاية على زوجها إذا منعها من أمر تريد فعله أو عارضها في شيء ولو كان في ذلك محافظاً عليها وعلى دينها وممارساً لحقّه الشرعي، وعندها يأتون ويحتجزون الرجل على أدنى شكاية، ويطلقون سراحه عند عفو المرأة عنه، فذلك حجزّ لحرّيّتها بزعمهم وبناءً على قوانين بلادهم. كذلك الأب إذا أراد منع ولده من الخروج ليلاً لأماكن غير شرعيّة أو منعه من أمرٍ ما، يمكن للولد الإتصال بالشرطة والأمر كذلك، فذلك حجز لحرّيته المزعومة.
بعد هذا التوطّن والتبعيّة للبلاد غير الإسلاميّة، وبعد توفّر مثل هكذا حرّيّات، مضافاً إلى منح المقيم التابعيّة للبلد من قبل السلطات هناك بشكل سهل يدفع بالإنسان الذي يعتبر نفسه مواطناً لتلك الدولة إلى الإستغناء عن بلده الإسلامي الأصلي بل ونسيانه، يتضح أمر تعرّب الكثير من العوائل عند هجرتهم وإقامتهم في بلاد الغرب لمدّة طويلة يصعب عليهم بالتالي ترك تلك البلاد والعودة إلى بلدهم الإسلامي، وبالتالي يكونوا قريبين جدّاً من التعرّب وأقرب منهم الأجيال اللاحقة.

5- الوقوع في بعض المحرّمات المتّفق على حرمتها :
بما أنّ أغلب بلاد الغرب بلاد غير إسلاميّة، يكون معظم تعامل المسلم هناك مع غير المسلمين، فيكون عرضةً للوقوع في الكثير من المحرّمات التي ترتبط بالتعامل مع الكفار والمشركين، وهنا تمّ اختيار بعضٍ منها كالركون إلى الكفّار والولاء والدخول تحت ولايتهم، والتي اتفق الأعلام من العامّة والخاصّة على حرمتها، وكما أنّ التعرّب بعد الهجرة حرمته لما فيه من نقص عن الدين وابتعاد عن أحكامه بعنوانه الواسع، تكون هذه المحرّمات من مصاديق ولوازم لهذا النقص وهذا البعد عن الدين في تلك البلاد.
وفي المقام سيتمّ عرض الآيات القرآنيّة التي جاءت للنهي عن الوقوع في هذين المحرّمين: الركون إلى الظالمين، والولاء لهم، لما في من دلالة على عظم حرمتهما، إضافةً لذكر الآيات الكريمة، نعرض شيئاً من تفسير هذه الآيات لشموله الكثير من المصاديق والمظاهر التي هي موجودة فعلاً في مجتمعات الغرب.
أوّلاً: الركون إلى الظالمين 

  1. يقول تعالى: { وَلاَ تَرْكَنُواْ إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاء ثُمَّ لاَ تُنصَرُونَ} .
  2. يقول تعالى: {… وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبَرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُواْ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ}.

قال الجوهري في الصحاح: (رَكِنَ إليه بالكسر يَرْكَنُ رُكوناً فيهما، أي مالَ إليه وسكن. قال الله تعالى: {ولا تَرْكَنُوا إلى الذينَ ظَلَموا}).
ذكر السيّد العلامة الطباطبائي (قدس سره) في تفسيره الميزان ما يلي:
(فالركون إلى الذين ظلموا هو نوع اعتماد عليهم عن ميل إليهم اما في نفس الدين كأن يذكر بعض حقائقه بحيث ينتفعون به أو يغمض عن بعض حقائقه التي يضرهم إفشاؤها، واما في حياة دينية كأن يسمح لهم بنوع من المداخلة في ادارة أمور المجتمع الديني بولاية الأمور العامة أو المودة التي تفضى إلى المخالطة والتأثير
في شؤون المجتمع أو الفرد الحيوية.
وبالجملة الاقتراب في أمر الدين أو الحياة الدينية من الذين ظلموا بنوع من الاعتماد والاتكاء يخرج الدين أو الحياة الدينية عن الاستقلال في التأثير ويغيرهما عن الوجهة الخالصة، ولازم ذلك السلوك إلى الحق من طريق الباطل أو احياء حق باحياء باطل وبالآخرة إماتة الحق لا إحياؤه ).
لا يخفى على المتتبّع في واقع الهجرة والمهاجرين المسلمين أنّه مع مرور الزمن يصدق على البعض أنّهم من الذين ركنوا إلى الذين ظلموا ورضوا بما يقولون وبما يحكمون وبالتالي بظلمهم، فهم عند إقامتهم بينهم وإظهار المحبّة لهم والمخالطة معهم يصبحون مع مرور الزمن مدافعين عنهم سواء كانوا محقّين أم لم يكونوا، هذا على فهم معنى (الذين ظلموا) بالذين يظلمون المسلمين أو غيرهم، أمّا على تفسير (الذين ظلموا) بالصفة لهم – الظالمين – أي المشركين لقوله تعالى: { وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} فيكون الأمر أكثر شمولاً وأكثر وضوحاً، فنفس الركون إلى المشركين يولد حالة جهل وابتعاد عن الدين في العقائد والأحكام والعادات والأعراف وغير ذلك. قد تكون هذه التبعيّة والركون في البداية بسبب الإستخفاف به وبدافع عاطفي لكن يتحوّل فيما بعد وبسبب تكراره وبسبب عدم الإلتفات والجهل ليصبح أمراً واقعيّاً ثابتاً يتفشّى في البيئة المحيطة وكأنّه أمرٌ عاديّ ومن لوازم الحياة هناك!
وهذا الركون سببه الأساس عدم الإستقلال في التأثير والإعتماد والإتكاء على الذين يبعدون عن الدين الموجود عادة في بلادهم، والركون المنهيُّ عنه في هذه الآية هو بمعنى أصل الميل إليهم، فيكون المعنى ولا تميلوا قليلاً إلى الذين ظلموكم ولا تعظموهم. ومن مصاديق الركون والميل أيضاً: المخالطة معهم، واظهار محبتهم، والطمع بهداياهم، ومداهنتهم، واتباع أوامرهم، كل ذلك يكون مورداً للنهي طبقاً للآية الكريمة، هذا كلّه ميلٌ قليل فكيف بالميل الكثير إليهم مثل: المعونة على الظلم ولو بإقراره والرضا به، والمشاركة معهم بما بخالف الشرع، واتباع عاداتهم وتقاليدهم لكسب رضاهم وغير ذلك.
وفي هذا السياق وردت روايات كثيرة منها رواية طَلْحَةَ بْنِ زَيْدٍ: ” عَنْ أَبِي عبدالله (عليه السلام) ، قَالَ : الْعَامِلُ بِالظُّلْمِ، وَالْمُعِينُ لَهُ ، وَالرَّاضِي بِهِ ، شُرَكَاءُ ثَلاثَتُهُمْ “. وقد شرحها العلامة المجلسي + مؤيّداً بالآية المتقدّمة بأنّ الراضي بالظلم هو المظلوم والساكت عن ظلمهم، وذكر مصاديق هي محلّ ابتلاء للمتعاملين مع الكفار والمشركين:
(النهي متناول للانحطاط في هواهم ، والانقطاع إليهم ، ومصاحبتهم ومجالستهم ، وزيارتهم ومداهنتهم ، والرضا بأعمالهم والتشبه بهم ، والتزيي بزيهم ، ومد العين إلى زهرتهم ، وذكرهم بما فيه تعظيم لهم).

والمتحصّل: أنّ الركون إلى الظالمين والمشركين والميل إليهم محرّم شرعاً للنهي الوارد والدال على الحرمة، وهذا الأمر وإن كان قابلاً للتحقق في بلاد الإسلام، لكن تحقّقه في بلاد الكفر والمشركين أكثر وضوحاً بل ظاهرٌ لكلّ الناس، ومع استلزامها اتباع تقاليد المشركين والرضا بظلمهم وأفعالهم وعقائدهم تكون من مصاديق التعرّب للمسلم؛ لذلك يلزم عليه مراعاة ذلك في نفسه وفي عياله.

ثانياً: الولاء للظالمين وللمشركين

  1. يقول تعالى: { لاَّ يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلاَّ أَن تَتَّقُواْ مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ}.
  2. يقول تعالى: { بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا ، الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِندَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا }.
  3. يقول تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ آبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاء إِنِ اسْتَحَبُّواْ الْكُفْرَ عَلَى الإِيمَانِ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} .

في هذه الآيات ومثيلاتها ينهى الله تعالى المؤمنين عن تولّي الكافرين واليهود والنصارى، وقد حذّر الله تعالى من هذا الولاء لما فيه من نتائج سلبية بهذه التعابير القاسية، لكي يظهر عظم هذا الأمر وخطورته.
والتوّلي بمعنى الولاية وهي الحبّ وتدبير الأمور والشؤون. نهى الله تعالى عن موالاتهم لما فيه من ظلم للنفس وظلم للمؤمنين؛ لأنّ المؤمن إذا سار على رأي الكفار ومنهجم فلن يتمكّن من ممارسة نشاطه الديني بشكل كامل، بل سيندمج شيئاً فشيئاً مع المجتمع إلى أن يصبح منهم مع مرور الأيّام والسنين وهذا ظلم النفس، أمّا ظلم المؤمنين؛ فلأنّه إذا تولّى المسلمون الكافرين فستصبح شوكة الكافرين أقوى من شوكة المؤمنين، وسيزيد السواد فيهم والمفروض أنّه يكون سنداً لدولة الإيمان وللمؤمنين يضرب بسيفهم وينصرهم قولاً وفعلاً، لكن بولايته للكفار وبإقامته تحت حكمهم، فلن يستطيع ذلك وقد يصل به الأمر أحياناً إلى الوقوف بجنب الكافرين ضدّ المؤمنين حمايةً لمصالحه المرتبطة بمصالح الكافرين، أو لا أقلّ يختار الوقوف جانباً على الحياد إذا شعر بخطورة الموقف.
ذكر السيّد العلامة الطباطبائي (قدس سره) تعقيباً على الآية الأولى ما يلي:
( فأخذ هذه الأوصاف في قوله { لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين} للدلالة على سبب الحكم وعلته وهو أن صفتي الكفر والايمان مع ما فيهما من البعد والبينونة ولا محالة يسري ذلك إلى من اتصف بهما فيفرق بينهما في المعارف والأخلاق وطريق السلوك إلى الله تعالى وسائر شؤون الحياة لا يلائم حالهما مع الولاية فإن الولاية يوجب الإتحاد والإمتزاج وهاتان الصفتان توجبان التفرق والبينونة وإذا قويت الولاية كما إذا كان من دون المؤمنين أوجب ذلك فساد خواص الإيمان وآثاره ثم فساد أصله).
وذكر (قدس سره) تعقيباً على الآية الثانية – بحسب الترتيب أعلاه – مصاديق لكيفيّة تحوّل الولاء للكفار مع مرور الزمن إلى ازدياد البعد عن الإسلام:
( فإن من اتصل بالكفار منفصلاً عن مجتمع المؤمنين لا يخلو عن الحضور في محاضرهم والاستيناس بهم، والشركة في محاوراتهم، والتصديق لبعض ما يتذاكرونه من الكلام الذي لا يرتضيه الله سبحانه، وينسبونه إلى الدين وأوليائه من المطاعن والمساوي ويستهزؤون ويسخرون به.
فهو كلما لقى المؤمنين واشترك معهم في شيء من شعائر الدين آمن به، وكلما لقى الكفار وأمضى بعض ما يتقولونه كَفَرَ، فلا يزال يؤمن زماناً ويكفر زماناً حتى إذا استحكم فيه هذه السجية كان ذلك منه ازدياداً في الكفر، والله أعلم).
ومن عظم وخطورة هذا التولّي فقد نهى الله تبارك وتعالى عن هذا الولاء والتولّي حتى لو كان الولي هو الآباء أو الإخوان أي من الأقارب كما الآية الثالثة – بحسب الترتيب أعلاه – ، فهو تعالى رغم أنّه أمر بالرفق بالوالدين بالمصاحبة بالمعروف حتى لو كانا مشركين كما في قوله تعالى: { وَإِن جَاهَدَاكَ عَلَى أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُون}، لكن في مورد الولاية والتولّي نجده تعالى يحذّر من ذلك وينهى عنه ويصف المؤمنين مع هذا الولاء بالظالمين.

والمتحصّل: أنّ الولاء والتبعيّة للكفار والمشركين المنهي عنه في الآيات محرّم؛ لأنّه لا يجوز له تولّي الكافر وجعله حاكماً ومتسلّطاً عليه، ممّا لا يجعله يمارس تكاليفه ونشاطاته الدينّية كما هو المطلوب. وهذا الولاء كسابقه الركون إلى الظالمين وإن كانت التولية هي مرحلة متقدّمة وأكثر خطورة منها.
ثمّ مضافاً إلى ذلك، ذكر الفقهاء دليلاً متعلّقاً بما نحن فيه وهو دليل نفي السبيل المستفاد من الآية الكريمة: {… وَلَن يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً } وحكموا بحرمة كثير من الموارد وبطلانها إذا استلزمت السبيل للكافر على المسلم، حيث يقول الشهيد الثاني قدس سره (ولا شي من السبيل بثابت للكافر على المسلم بالآية) على نحو السالبة الكلّيّة ويلتزم به الفقهاء كدليل في أحكام متعدّدة وكثيرة منها:

  • منع زواج المسلمة من الكافر.
  • منع شراء الكافر للأَمَة المسلمة.
  • وجوب على المولى الكافر بيع أمته إذا أسلمت أو عبده إذا أسلم.
  • بينونة الزوجة المسلمة إذا ارتدّ زوجها.
  • منع رهن عبد مسلم عند الكافر.
  • اختصاص الشفعة بالشفيع المسلم دون الكافر.
  • عدم قبول قسامة الكافر على المسلم لإثبات حقّ للكافر على المسلم.
  • عدم وراثة الكافر للمسلم.
  • عدم وكالة الكافر على المسلم لكافر أو مسلم.

وبالتالي فالتولية والولاء للكافرين والتصديق لهم والخضوع لحكمهم وإن خالف حكمهم الشريعة الإسلاميّة هو من مصاديق جعل السبيل للكافرين على المسلمين، فإذا انطبق في هجرة المسلم من بلاد الإسلام وإقامته في بلاد الشرك هذا العنوان سيكون محرّماً وهو ممّا لا شكّ فيه ابتعاد عن الدين ومنقصة فيه، فيكون مضافاً لحرمته بنفسه يكون مصداقاً من مصاديق التعرّب بعد الهجرة وهو حرام أيضاً، وعلى المسافر إلى تلك البلاد مراعاة ذلك أيضاً على نفسه وعياله.

أعاذنا الله تعالى وإياكم من صغائر الذنوب فضلاً عن كبائرها وتلطّف علينا برضاه وغفرانه
اللّهمّ عجّل فرج وليّك القائم المهديّ المنتظر وارزقنا رضاه ونصرته والشهادة تحت لوائه
وأعنّا على أنفسنا بما تعين به الصالحين على أنفسهم
والصلاة أوّلاً وآخراً على محمّد وآل محمّد الطيبين الطاهرين

______________________________________________________________________________


المصادر:

  1. القرآن الكريم.
  2. تهذيب الاحكام في شرح المقنعة، الشيخ الطّوسي، شيخ الطائفة، أبو جعفر محمّد بن الحسن، تحقيق وتعليّق: السيّد حسن الموسوي الخرسان، دار الكتب الإسلامية، تهران، 1390 هـ .
  3. الخصال، الصدوق، ابن بابويه، أبو جعفر محمّد بن عليّ بن الحسين القمّي، صحّحه وعلّق عليه: علي اكبر الغفاري، مؤسسة النشر الاسلامي التابعة لجماعة المدرسيين بقم المشرفة، 1403 هـ .
  4. الصحاح تاج اللغة وصحاح العربية، الجوهري، إسماعيل بن حماد، تحقيق: أحمد عبدالغفور عطار، الطبعة الرابعة، دار العلم للملايين، بيروت، 1407 ه‍ـ – 1987 م.
  5. الكافي، الكليني، محمّد بن يعقوب، الطبعة الأولى، دارالحديث، قم، 1387 هـ ش.
  6. كلمة التقوى‌، البصري البحراني، زين الدين، محمّد أمين‌، السيّد جواد الوداعي‌، الطبعة الثالثة، قم، 1413 هـ .
  7. مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، العلامة المجلسي، محمّد باقر بن محمّد تقي، الطبعة الثانية، دار الكتب الإسلاميّة، ١٤٠٤ هـ .
  8. مسالك الأفهام في شرح شرائع الإسلام، الشهيد الثاني، العاملي، زين الدين بن عليّ، تحقيق: مؤسّسة المعارف الإسلاميّة، الطبعة الرابعة، مطبعة عترت، قم، 1429 هـ .
  9. المسائل المنتخبة، السيستاني، السيّد عليّ الحسيني، مكتب سماحته، الطبعة الرابعة عشر، 1431 هـ .
  10. الميزان في تفسير القرآن، العلامة الطباطبائي، السيّد محمّد حسين، الطبعة الخامسة، دفتر انتشارات اسلامي التابعة لجامعة المدرّسين، قم، 1417 هـ .
اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى