لا دخان أبيض من اجتماع «أوبك»: العالم يغرق بنفطه!

الصحافية داليا قانصو:

 

لم يخرج الدخان الأبيض من اجتماع منظمة الدول المصدرة للنفط «أوبك» يوم الجمعة الماضي، ولا حتى الدخان الأسود. غادر ممثلو 12 دولة  مقر المنظمة في فيينا بوجوه متجهمة. بعضهم، بوجوه لامبالية. فالاجتماع كان شكلياً، وإن متوتراً. تسريبةٌ واحدة في منتصفه حول اتفاق الأعضاء على تحديد سقف الإنتاج بـ31.5 مليون برميل في اليوم، أحدث هزة في أسعار النفط. لكن اللقاء كان الأول منذ عقود وهو الذي ينتهي بلا أرقام، وبلا سقوف. في الداخل، كل يغني على هواجسه. وفي الخارج، العالمُ يغرقُ بالنفط.
مهندسُ قرار حماية حصص أسواق دول الخليج النفطية منذ العام الماضي، والذي أدى إلى هبوط حاد في أسعار النفط العالمية، وزير البترول السعودي علي النعيمي، استعجل أمره بعد الاجتماع للالتحاق بمؤتمر المناخ الباريسي. وزير النفط الإيراني بيجن زنغنة أعاد ما ردده من قبل بأن بلاده لن تحدد سقفاً لإنتاجها النفطي بعد رفع العقوبات عنها، وتنتظر بفارغ الصبر العودة بقوة إلى الأسواق العالمية. روسيا كانت قد فضلت أصلاً ألا تشارك رسمياً في الاجتماع، مكتفية بعقد لقاءات ثنائية على هامشه. تعويم المنظمة السوق بالنفط موجه في جزء منه ضدها، والنية لديها تتجه إلى التصعيد.
مطالب خفض الإنتاج داخل «اوبك» باءت بالفشل. الفنزويليون، كان طلبهم بخفض إنتاج النفط بحدود خمسة في المئة مرفوضاً أصلاً قبل أن يطرح. بلادهم تعاني أزمة اقتصادية حادة، ورئيسها نيكولاس مادورو أصر خلال الحملة الانتخابية التشريعية الأسبوع الماضي على أنه «حتى لو هبط سعر برميل النفط إلى 20 دولاراً، فإن الإمبريالية لن تربح المعركة». صناديق الاقتراع قالت غير ذلك الأحد، مع أول انعكاس ملموس ومباشر ربما للحرب النفطية. الجزائر، من جهتها، استبقت الاجتماع العقيم بموافقة برلمانها على زيادات في أسعار البنزين والديزل والغاز والكهرباء المدعمة ضمن ميزانية 2016، في أحدث محاولة للتأقلم مع التراجع في إيراداتها. فنتائج الاجتماع كانت معروفة سلفاً بالنسبة إليها: حرب النفط لم تطرح أوزارها بعد، لأنها في الأصل لم تجن ثمارها.
مضى عام على هبوط أسعار النفط إلى مستويات قياسية منذ 2009. وأمس، بقي سعر برميل النفط تحت الـ40 دولاراً للبرميل بعد اجتماع «أوبك»، مسجلاً أدنى مستوى له في سبع سنوات، في مؤشر على استمرار الخلاف بين الأعضاء، لا سيما حول كيفية التعامل مع الإنتاج الإيراني بعد رفع العقوبات، فيما ينتظر المتعاملون في البورصات نتائج الاجتماع الذي سيعقده الاحتياطي الأميركي (البنك المركزي) الاسبوع المقبل.
السبب وراء هبوط الأسعار بسيطٌ: قرار سعودي بشن «حرب استباقية» لحماية الحصة السوقية لـ «أوبك»، في وجه شركاء «غير تقليديين»، من خلال تعويم السوق بالنفط وضخ كميات منه لا تلتزم بـ «كوتا» محددة. لكن «اوبك» ليست دول الخليج فقط. وكثير من الدول المنضوية تحت رايتها، ولا سيما مجموعة «الخمس الأضعف» (الجزائر ـ فنزويلا – انغولا – العراق – ليبيا) تضررت كثيراً جراء هذه السياسة.. وما زالت. هو إذاً، كما وصفه أحد المحللين، بقوله إن «ما يجري في العالم اليوم، في السياسة وفي الاقتصاد، هو في جزء كبير منه، حربٌ بين ما تريده دول الخليج وما يريده بقية العالم». هذا الصراع يشتد على محاور عدة، والنفط واحدٌ منها، ما حوّله إلى سلعةٍ كباقي السلع، يحددُ سعرَها المستهلك. اللعبة قد تكون خطرة، لجهة أنها قد تستمر طويلاً، لكن الخطر قد يرتد على المنظمة نفسها. «أوبك، التي كانت تحرك العالم بإصبعها، ماتت ككتلةٍ واحدة»، يجزم الكثيرون بعد الاجتماع الأخير.
أهداف الحرب: أكثر من عصفور بحجر واحد؟
بالمفهوم العام، تستمر الحروب في العادة ما دامت أهدافها لم تتحقق بعد. هكذا، لم يخرج اجتماع «اوبك» الأخير بتغيير في الاستراتيجية. الأمر الذي يسري عليه، يبدو مشابهاً لما يسري على حروب المنطقة أو موازياً.
لكن في وجه من تشن حرب النفط الأخيرة؟
يشكك كثيرون في تحقيق دول الخليج حتى الآن أهدافها وراء سياستها المعتمدة حالياً. لهذا السبب، يبدو أن رهانها على الوقت سيبقى سيد الموقف، متسلحةً بأن جرس الإنذار لاقتصادها بإمكانه الصمود لبضع سنوات أخرى. في الوقت الضائع، وبالرغم من تعزيز الطلب العالمي على النفط، فإن العالم لا يزال ينتج منه أكثر مما يحتاجه، وذلك رغم نجاح الخطة نجاحا ضئيلا في كبح نمو إمدادات النفط الصخري الاميركي المكلف نسبياً في إنتاجه. في المقابل، فقد سجل الإنتاج الروسي مستويات مرتفعة قياسية جديدة غير متوقعة. وفي تحد لـ «اوبك»، تواصل شركات النفط الروسية أنشطة الحفر، بما يظهر أن أكبر منتج للخام في العالم مستعدٌ لمعركة طويلة الأجل مع المنظمة على الحصص، حتى لو وصل الخام إلى 35 دولاراً للبرميل. الخفض الحاد في قيمة الروبل، يدعم المصدرين الروس، بينما ترتبط العملات في كثير من دول «أوبك» الخليجية بالدولار. أما إيران، فتنتظر رفع العقوبات عنها، لإحداث المفاجأة، بالرغم من رهان الخليجيين على قلة حلفائها.
هكذا، تبدو الأهداف المعلنة لـ «أوبك» غير قابلة للتحقق على المدى القريب، إذا ما قيست أولاً برغبة دول الخليج بمواجهة النفط الصخري الاميركي (Shale) كما يجمع معظم المحللين الغربيين، أو بمحاصرة روسيا بالتحالف مع أميركا (نظرية توماس فريدمان في «نيويورك تايمز») للضغط عليها في الملفين الأوكراني والسوري، أو إدارة الحرب السعودية ـ الإيرانية بسلاح النفط أيضاً. آخر أوجه الكباش مع موسكو، دخول السعودية السوق البولندية مؤخراً، بأسعار متدنية جداً، ما اعتبره الروس اختراقاً «نشطاً» لملعبهم التقليدي، فيما توجهت روسيا إلى الصين راهناً، لتعويض الخسائر، وسياسياً إلى حل الأزمة السورية وفق شروطها، بانتظار رفع كامل للعقوبات عن حليفتها إيران، التي أسست زيارة الرئيس فلاديمير بوتين إليها مؤخراً حلفاً استراتيجياً يشمل أوجهاً متعددة لا يستثني الطاقة.
الحرب طويلة
تقنياً، هل تحققت أهداف الخطة؟ إنها «آلية سوق بحتة»، توضح كارول نخلة، مديرة شركة «كريستول إنرجي» الاستشارية في لندن والباحثة غير المقيمة في معهد «كارنيغي» لـ «السفير»: «الإنتاج خارج أوبك لم ينخفض بالدرجة التي كانت متوقعة، فالنفط الصخري الأميركي أظهر أنه قادر على المقاومة نظراً للتطور في كفاءة الإنتاج، أما الطلب، بالرغم من ازدياده، إلا أنه لم يرتفع بالسرعة الكافية لامتصاص المعروض وتخطيه، فيما المخزون من النفط يفيض، وهذا ما يبرر الأسعار التي هي عليه اليوم».
أما بالنسبة إلى روسيا، فتعتبر نخلة أن نظرية الرابحين والخاسرين مرتبطة بالاحتياطات المالية وفرق العملة. «ليس كل المنتجين في الموقع ذاته، هناك من يملكون احتياطات مالية جيدة، وبإمكانهم تحمل أسعار النفط الحالية، وهناك من ليسوا خاضعين لهيمنة الدولار، وهذا ينطبق على روسيا».
وتعطي نخلة مثالاً أوضح، من زاوية أخرى، قائلة إن دولة كالعراق «تعاني اليوم بشدة، لأن قطاع النفط يؤمن لها 65 في المئة من ناتجها القومي، أما النروج، فبالرغم من أنها دولة منتجة ومصدرة للنفط، لكنها لا تقع تحت رحمته، بفضل إدارة عائداتها الرشيدة وتنوع سياستها الاقتصادية. وهنا، محدودية التنوع الاقتصادي ستضر من دون شك دول الخليج على المدى الطويل أيضاً».
بالرغم من ذلك، تعتبر الباحثة أنه «كما هي الحال بالنسبة إلى جميع الدول المنتجة للنفط، فإن عائدات النفط في روسيا وإيران ستبقى منخفضة مقارنة بما كانت عليه قبل عامين، أما بالنسبة إلى النفط الصخري الأميركي، فما هو غير مؤكد ليس آنياً، بل يدور حول متى سيقفز الإنتاج مجدداً إذا ما عادت الأسعار إلى عافيتها».
هل نجحت السعودية في سياستها؟ «من الصعب التنبؤ بذلك اليوم»، تقول نخلة، مشيرة إلى أن «المملكة تعرف جيداً أنها لعبةٌ طويلة الأمد». هل ستبقى أسعار النفط على ما هي عليه؟ «أسعار النفط تعتمد على متغيرات كثيرة تؤثر على الإمداد والطلب العالمي». ولكن لماذا لم يرتفع السعر رغم الحروب الكثيرة في المنطقة؟ تجيب الباحثة بأننا نرى اليوم تعزيزاً للطلب فيما الخزانات مليئة، وسنحتاج وقتاً لامتصاص هذه القدرة الإضافية، ولكن السوق سترتب وضعها عاجلاً ام آجلاً، ففي تسعينيات القرن الماضي، لمجرد التذكير، تطلب الأمر عشر سنوات لتعيد السوق انضباطها».
حتى ذلك الحين، تبقى الدول المستوردة للنفط المستفيد الأول، وبعض شركات النفط التي تستغل هبوط الأسعار لفرض شروطها على حكومات الدول المنتجة. بعض فقراء العالم يضحكون في سرهم، لكن فنزويلا ليست نموذجاً!

 
نشر هذا المقال في جريدة السفير بتاريخ 2015-12-08 على الصفحة رقم 9 – أفكار وأخبار
لمشاهدة المقالة في جريدة السفير إضغط هنا 
 
اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى